بقلم.. ممدوح الولي
تمثل إيرادات قناة السويس أهمية خاصة لدى الحكومة المصرية حيث تتسم إيراداتها بالاستقرار النسبي، بعكس موارد أخرى أكثر تقلبا، مثل السياحة التي يتكرر تعرضها لفترات تراجع، وساعد على ذلك كونها ممرا مائيا عالميا يمر في الأراضي المصرية.
فحتى مع أحداث ثورة يناير 2011 التي أثرت سلبا على غالبية الموارد الدولارية المصرية، حين تراجعت الصادرات والاستثمارات فقد ظل العمل بالقناة منتظما.
كما أن إيراداتها من الموارد القليلة التي تدخل جيب الحكومة مباشرة، بعكس موارد أخرى مثل تحويلات العاملين التي تتجه إلى جيوب أسر هؤلاء العاملين، والصادرات السلعية والسياحة التي تتجه غالبية حصيلتها للشركات الخاصة.
ويدور المتوسط السنوي لإيرادات القناة منذ عدة أعوام حول خمسة مليارات دولار، إلا أن الرقم يزيد وينقص حسب أحوال التجارة العالمية والاقتصاد الدولي. فكلما زادت معدلات نمو التجارة الدولية، زادت معدلات عبور السفن التجارية للقناة، مما يزيد من حصيلة إيرادتها.
وإذا تراجع نمو التجارة الدولية انعكس ذلك على معدلات مرور السفن التجارية في القناة سلبا، وهو ما حدث خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، فقد تراجعت إيرادات القناة لعامين بعدها. وهكذا توقع الخبراء تأثر إيرادات القناة سلبا بتداعيات كورونا على التجارة الدولية.
وصدرت عن منظمة التجارة العالمية توقعات بتراجع معدلات التجارة في العام الحالي، بنسبة 12.9 في المئة حسب السيناريو المتفائل وبنسبة 31.9 في المئة حسب السيناريو المتشائم، كما صدر عن صندوق النقد الدولي توقع حدوث انكماش في النمو الاقتصادي العالمي بنسبة 3 في المئة، ترتفع نسبته إلى 6.1 في المئة في الدول المتقدمة وتنخفض إلى 1 في المئة بالدول الناشئة والنامية.
انكماش اقتصاد غالبية زبائن القناة
وهو ما أكدته نتائج النمو خلال الربع الربع الأول من العام الحالي بالعديد من الدول المتقدمة، خاصة الدول التي لتجارتها نصيب ملحوظ بالمرور عبر قناة السويس والتي شهدت انكماشا، ومنها فرنسا وإسبانيا وألمانيا وإيطاليا وإنجلترا والولايات المتحدة، والصين وكوريا الجنوبية وإندونسيا وتايوان وسنغافوره وماليزيا والفلبين.
إلا أن ما أعلنه رئيس هيئة قناة السويس كان مخالفا لتوقعات الخبراء، المستندة على ما لحق بالصين ودول آسيوية ودول أوروبية من تداعيات سلبية على اقتصاداتها وتجارتها، حيث أعلن نمو إيرادات الشهر الأول من العام الحالي مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي، ثم ظل يكرر نفس الأمر في الشهر الثاني والثالث والرابع من العام، ليسفر الأمر حسب تصريحاته عن بلوغ إيرادات القناة عن المليار و869 مليون دولار خلال الشهور الأربعة الأولى من العام، بنمو 2 في المئة عن نفس الشهور من العام الماضي.
وكانت ثقة الاقتصاديين قد تراجعت في قيادة هيئة القناة التي حولت الإعلان عن إيرادات القناة إلى الجنيه المصري، عقب تراجع الإيرادات بعد افتتاح التوسعة السابعة للقناة في أغسطس آب عام 2015، كى تستفيد من انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار بعد تحرير سعر الصرف، حين تظهر القيمة بالجنيه أعلى مما كانت عليه قبل تحرير سعر الصرف.
لكن القيادة الجديدة للقناة أعلنت قيمة الإيرادات بالدولار، وهو أمر لم يأت من أجل المزيد من الشفافية، ولكن لأن إعلان الإيرادات بالجنيه المصري لم يعد مجديا لتحسين الصورة، فحسب بيانات جهاز الإحصاء المصري بلغت إيرادات القناة خلال الربع الأول من العام الحالي 22.5 مليار جنيه، بتراجع 8 في المئة عن نفس الفترة من العام الماضي، لكن هذا الانخفاض سببه تراجع سعر الصرف بنسبة 10.6 في المئة ما بين الفترتين.
نصيب مصري كبير بالحركة بالقناة
والمعروف أن إيرادات القناة لا يتم احتسابها بعُملة محددة، ولكن حسب وحدة حقوق السحب الخاصة (SDR)، التي تتكون من 41.7 في المئة دولار و30.9 في المئة يورو و10.9 يوان صيني، و8.3 في المئة ين ياباني و8.1 في المئة جنيه إسترليني. وخلال العام الحالي ارتفع سعر صرف الدولار أمام اليورو بأكثر من 3 في المئة، وأمام الين الياباني بحوالي 3 في المئة، وأمام الجنيه الإسترليني بحوالي 5 في المئة.
وهو ما يمكن أن يكون سببا في نمو الإيرادات بنسبة 2 في المئة خلال الثلث الأول من العام، عامل آخر يمكن أن يكون من أسباب هذا النمو لعدد السفن المارة والحمولات، وهو زيادة تصدير الدول الخليجية لكميات من النفط خلال شهرى مارس وأبريل لتعويض إنهيار أسعاره، لكن غالب صادرات الخليج النفطية والغازية تتجه للدول الآسيوية ولا تمر بالقناة.
وهنا يُضاف عامل آخر محتمل وهو زيادة حركة السفن المصرية بالقناة نتيجة إستفادة مصر من إنخفاض أسعار البترول، وزيادة مشترياتها من النفط الخام والذي تشتريه عادة من الكويت والعراق، وهي الكميات التي تمر عبر قناة السويس، ويدعم هذا التفسير الجزئي أن مصر خلال العام الماضي احتلت المركز الثاني بعد هولندا بين دول شمال القناة، من حيث كميات البضائع الصادرة منها والواردة إليها عبر القناة، بنسبة 10.5 في المئة من إجمالي البضائع لتك الدول.
وأعاقت البيانات المحدودة الشهرية الصادرة عن هيئة القناة والتي توقفت عند شهر فبراير عن المزيد من التحليل، لكن بيانات شهر فبراير أشارت إلى تراجع في أعداد سفن الحاويات وحاملات الجرارات وحاملات السيارات، وسفن الركاب، بالمقارنة بنفس الشهر من العام الماضي، بينما زاد العدد الإجمالى بنسبة 13 في المئة بفضل زيادة عدد سفن البضائع الصب والغاز الطبيعي المسال وناقلات البترول.
ومن حيث الحمولة الصافية التي يتم على أساسها احتساب رسوم العبور، فقد تراجعت حمولات سفن الحاويات وحاملات السيارات وأنواع أخرى من السفن، لكن إجمالي الحمولات زاد بنسبة 13 في المئة، مع الأخذ بالاعتبار أن شهر فبراير شهد فقط بدايات ظهور أثر كورنا بالصين قبل انتشارها في الدول الأخرى، وسبق تهاوي سعر النفط في مارس، أي دلالته محدودة.
رأس الرجاء أقل تكلفة من الرسوم
عامل آخر يتوقع أن يكون له أثره السلبي على إيرادات القناة، وهو تحول سفن تابعة للخط الملاحي الفرنسي “CMA-CGM” إلى طريق رأس الرجاء الصالح بدلا من المرور من القناة، رغم زيادة طول الرحلة وزيادة مدتها بالمقارنة بالعبور للقناة، ثم تبعتها سفن حاويات تابعة لخط ميرسك وخط “MSC”، وهما أكبر خطين ملاحيين بالعالم.
وكان المبرر هو أن انخفاض أسعار البترول جعل تكلفة الإبحار عبر الدوران حول أفريقيا أقل من تكلفة العبور في القناة، حيث تتكلف الرحلة الأطول حوالي 200 ألف دولار، مقابل حوالي 400 ألف دولار كرسوم للعبور في القناة، لكن تباطؤ الطلب العالمي وزيادة مساحات الفراغات في السفن، جعل مسألة الوقت الأطول تلي التكلفة في الأهمية.
وبعد بدء الخط الفرنسي بالتحول لطريق رأس الرجاء الصالح قامت هيئة القناة بخفض رسوم عبور الحاويات القادمة من شمال غرب أوروبا إلى الشرق الأقصى بنسبة 6 في المئة، كما خفضت الرسوم لسفن الحاويات القادمة من موانئ الساحل الشمالي الشرقي الأمريكي والمتجهة إلى جنوب آسيا.
لكن انضمام ميرسك وMSC للتحول عن القناة دفع هيئة القناة لزيادة نسبة الخفض، للسفن القادمة من شمال غرب أوروبا إلى 17 في المئة، ومن الساحل الشرقي الأمريكي إلى ما بين 65 و75 في المئة، لكن شركات الملاحة ما زالت تطلب نسبا أعلى للخفض للتقريب بين الوفر الذي تحققه الرحلات عبر رأس الرجاء وبين رسوم المرور بالقناة.
ولبيان مدى تأثير هذا التحول في مسار رحلات بعض الخطوط الملاحية، نستعين بصورة التوزيع النسبي لأنواع السفن التي عبرت القناة العام الماضي، والتي تصدرتها سفن الحاويات بنسبة 28 في المئة من إجمالي عدد السفن، و27 في المئة لناقلات البترول، و22 في المئة لسفن البضائع الصب، و8 في المئة لسفن البضائع العامة، و5 في المئة لحاملات السيارات، و4 في المئة لسفن الغاز الطبيعي، و1 في المئة لسفن الركاب.
53 في المئة نصيب الحاويات من الحمولات
لكنه من حيث حجم حمولات السفن، وهو الأهم نظرا لاعتماد تحديد رسوم العبور عليه، فقد تصدرت حمولات سفن الحاويات بنسبة 53 في المئة، ولهذا اتجهت التخفيضات لتلك النوعية من السفن، و20 في المئة لناقلات البترول، و13 في المئة لسفن البضائع الصب، و7 في المئة لسفن الغاز الطبيعي، و5 في المئة لحاملات السيارات.
ويظل السؤال إلى متى يستمر تحول بعض السفن إلى رأس الرجاء؟ ويرد خبراء ملاحة بأنه طالما ظل سعر برميل النفط تحت 54 دولارا فإن خيار رأس الرجاء أفضل من حيث التكلفة، ونظرا لتوقع مؤسسات دولية استمرار الأسعار المنخفضة الحالية للنفط حتى الربع الأخير من العام، فهذا يعني استمرار هذا التحول.
لكن الأمر يتعلق أكثر بالمدى الزمني للتعافي من آثار كورونا، والذي إذا قصر أجله فهو يعني عودة الحياة الطبيعة والنشاط الاقتصادي للعديد من البلدان الصناعية، مما ينعكس في زيادة الطلب على النفط وزيادة أسعاره، وكذلك تغليب عامل الوفر في الوقت الذي يحققه المرور عبر القناة.
عوامل أخرى كانت مساندة للحركة بالقناة سيقل تأثيرها، منها بدء دول أوبك وحلفائها خفض إنتاج النفط من أيار/ مايو، وإعلان السعودية زيادة حجم الخفض الطوعي للإنتاج بنحو مليون برميل يوميا بدءا من حزيران/ يونيو، بخلاف 2.5 مليون برميل هي حصتها من الخفض حسب الاتفاق، وتكرر الإعلان عن الخفض الطوعي للإنتاج من دول أخرى.
كذلك لن تشتري مصر نفس الكميات التي اشترتها من النفط وساهمت في زيادة معدلات المرور في القناة، نظرا لارتفاع السعر نسبيا حاليا، وكذلك ارتباط الشراء بوجود طاقة قصوى للتخزين، وبوجود اتفاقات للتمويل مع مؤسسات إقليمية كالبنك الاسلامي للتنمية، أو تسهيلات بالسداد من قبل الدول الموردة.
أضف تعليقك