بقلم: وائل قنديل
لا أظن أن الضابط، أحمد المنسي، الذي لقي حتفه شهيدًا في المعارك التي افتتحها عبد الفتاح السيسي في سيناء منذ سبع سنوات، وبنى عليها طلب تفويض بالحكم، لا أظنه، هو أو غيره من الشهداء، جنودًا وضباطًا، كان في عقيدتهم أنهم ذاهبون إلى الحرب على الإمام ابن تيمية.. بل لا أظن أن أحدًا منهم يعرفه، أو قرأ له، أو عنه، أصلًا.
ولكن صناع دراما السيسي في رمضان قرّروا أن يعيدوا قتل الشهداء مرة أخرى على الشاشة الفضية في حربهم الشخصية على الإمام الفقيه المقاوم، في مسلسل اختاروا له اسم "الاختيار"، سكبوا فيه كل تشوهاتهم الفكرية والنفسية، وأسقطوا عليه كل مخزونهم من العداء الاستراتيجي لفكرة المقاومة بشكل مطلق، سواء مقاومة الاحتلال والتطبيع مع إسرائيل، أو مقاومة الظلم والطغيان والاستبداد، ليأتي المسلسل غير بعيد، بل وثيق الصلة بالدراما التي يعرضها محمد بن سلمان على شاشاته، وتدعو صراحة إلى التطبيع والتصالح مع "اليهودية السياسية"، في مقابل العداء السافر/ السافل والحرب المسعورة على "الإسلام السياسي".
من هذا المنظور، نكون بصدد غزو درامي يضع خططه ويقوده استراتيجيًا وتكتيكيًا العقل السياسي الصهيوني، ممثلًا في بنيامين نتنياهو شخصيًا، والذي أعطى إشارة انطلاق ما أسماه "مشروع دول الاعتدال العربية" منذ العام 2014، حين تحدّث عن طابور انتظار للمطبعين العرب في طريقه إلى الخروج من حالة السرية إلى العلنية.
الحكاية إذن ليست إعادة الاعتبار لتضحيات محاربين ضد "الإرهاب المصنوع" على عين السيسي ومشغليه في سيناء، بقدر ما هي الحرب على الفكر المقاوم في التراث الإسلامي، والخروج بتعريفاتٍ جديدةٍ وزائفة للعدو والصديق والشريك والحليف، ومحاولة تثبيتها في مخيلة المتلقي عبر تقنيات الإبهار الدرامي، ذات الإنتاج الضخم، بحيث تصبح تضحيات الشخصية المحورية في العمل، الضابط المنسي، قضية ثانوية فيما تنهض محاولة اغتيال ابن تيمية في العقل والذاكرة العربيتين، لتكون القضية الأساسية عند الجنرالين، بيتر ودويدار، مخرج مسلسل "الاختيار" وكاتبه.
هذا الغل الدرامي القائم على التدليس والتزييف يفتقر أبسط مقومات الدراما، فتأتي أشبه بعبوات درامية سريعة التحضير، تشبه وجبات سريعة تم طهوها في درجات حرارة خرافية، تكفي لسرطنة ما يقدّم إلى المستهلك، أو في أفضل الاحتمالات أنت أمام مجموعة منتقاة من البيانات التي يؤلفها المتحدث العسكري مع كل حدثٍ يقع على أرض سيناء، يتم تقديمها مصوّرة وممثلة بعد إضافة كثير من مكسبات الطعم والبهارات الدرامية لها، ظنًا من القائمين على الصناعة أن الإبهار البصري يكفي لتخدير العقل ثم حقنه بما يراد تثبيته.
من شخصيات المسلسل الرئيسية التي تم اختيارها وعاء لما يراد تلقينه للمشاهد عن الإمام ابن تيمية، هناك شخصية ضابط الصاعقة، هشام عشماوي، الذي لم يمر على إعدامه بتهمة الإرهاب سوى شهرين، ومع ذلك فالثنائي بيتر ودويدار يقدّمانه دراميًا وكأنهما غاصا في أعماق الشخصية، ووقفا على أبعادها النفسية والفكرية والإنسانية، وأنجزا عملية هرسها بالدراسة لتقدّم على الشاشة بهذه السرعة والخفة، بعد أيام فقط من إعدامه، بل ربما قبل القبض عليه وإعدامه، الأمر الذي يرجّح وجود رواية أو رسالة مسبقة التجهيز، مكتوبة ومخرجة بالحبر السيسي وتنتظر التقديم.
على أن الأهم، والأغرب من ذلك كله، أنهم من حيث أرادوا إضرام النار في شخصية الفقيه ابن تيمية، فإنهم أعادوا إحياء سيرة الرجل، فاندفع الجمهور إلى البحث بنفسه في كتب التاريخ والفقه، وأيضًا في الأعمال الدرامية العربية السابقة، للوقوف على حقيقة هذه الشخصية المثيرة للجدل، والتي ارتبطت بأنصع فترات مقاومة العرب والمسلمين لغزو التتار، فكان ابن تيمية رمزًا للفقه المقاوم والفكر المحرض على مواجهة العدو الحقيقي للأمة والاستبسال في الكفاح ضده.
اختيار الناس البحث بأنفسهم، بعيدًا عن "الاختيار" الدرامي العسكري، أتاح لهم فرصة المقارنة الموضوعية بين ابن تيمية، كما يراه السيسي، ونتنياهو، وبيتر، ودويدار، أو ابن تيمية كما هو في كتب التاريخ الرصينة والدراما العربية، قبل أن تتصهين وتكتب بالعبرية، ثم تترجم إلى العربية، والنتيجة أن مسلسل السيسي تحول إلى مادة للسخرية، أساء لتضحيات وبطولات الشهداء من المحاربين الحقيقيين، بأن جعل من دمائهم وأسمائهم مادة للتربّح السياسي والاتجار بالقيمة والمعنى لمصلحة العدو الحقيقي.
أضف تعليقك