بقلم: خالد حمدي
الجنة عند السابقين تختلف عن الجنة عند اللاحقين حبًا وشوقًا وطلبًا؛ فالسابقون كانوا يشمون ريحها في الجهاد، ويدفعون عربونها في الصدقة، ويتزينون طلبًا لها في قيام الليل، ويبكون شوقًا إليها عندما تثقل الدنيا عليهم بهمومها وأحزانها.. لو جبُنت نفوسهم تشجعها الجنة، ولو غمضت جفونهم تفتحها الجنة، ولو ثقلت أجسادهم تنشِّطها الجنة، كم حنَّت لها الأفئدة، ودمعت من أجلها العيون، وطار من أجلها النوم.
قيل لأحدهم لم لا تنام؟! فقال: مَن علم أن الجنة تُزيَّن فوقه والنار تسعَّر تحته.. كيف ينام بينهما؟!
قلوبهم كانت بالجنة موصولة، وعقولهم بها مشغولة، وأموالهم لقربها مبذولة، ومع ذلك يظن أحدهم أنَّ كل الناس من أهل الجنة إلا هو..
قال رجل بحضرة ابن مسعود: "والله يا ابن مسعود ما يسرني أن أكون من أصحاب اليمين، وإنما يسرني أن أكون من المقرَّبين"، فبكى ابن مسعود وقال: "ولكن هاهنا في المجلس رجل يتمنى إذا مات لم يبعث"- يعني نفسه- وهو مَن هو في السبق والعطاء.. رضي الله عنه.
ثم جئنا بعد هؤلاء القوم نريد أن نشتري الجنة بدرهم، ونخطب الحور بفِلْس، ونرث الفردوس بكلام جميلٍ وحالٍ عليلٍ.. بعضنا لا يُصلي الفجر ويطلب عروسًا في الجنة، وضيئةَ الوجه، ونسي المسكين أن وضاءةَ الحوراء لا تجتمع مع ضوء الشمس الذي يلسعه حين يستيقظ.
وبعضنا يكنز الذهب والفضة ولا ينفق معشار ما ينفقه طفله الصغير، ثم يقول لك: ودِدت لو كان لي قصرٌ بجوار قصر الصِّدِّيق، ونسي المسكين أن ما أنفَقَ لا يشتري له شبرًا في الدنيا.. فكيف بالجنة؟!
وبعضنا يحلم بموائد الجنة ذات الثلاثة آلاف آنية وهو لم يجتمع بمسكين على طبق، وبعضنا يقول: واشوقاه إلى عمر وعثمان وحمزة والزبير، ونسي أنهم شهداء كانوا بالرماح يجاهدون، وللأولاد والزوجات كثيرًا ما كانوا يهجُرون، وللدين ينصرون، وهو الذي يدركه التعب والنصب عندما يتحرك من الغرفة إلى الغرفة أو من السرير إلى الباب.
وبعضنا إن ذكَرتَ أمامه النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول لك غدًا ألقاه وأنعَم بقربه ونور محيَّاه، ولا يدري المسكين أنَّ الجميع سيلقاه يوم القيامة لكن كلٌّ له وجه، ووجهه المنير البسوم- صلى الله عليه وسلم- لا يكون إلا لمَن وجَّه وجهه طويلاً للمصحف، وبَشَّ به في وجوه الإخوان، وتبسَّم به في وجوه المساكين والمحرومين.
وآخرون لوجه الله يشتاقون، وللذيذ خطابه يرغبون، وهم الذين كانوا من تكليفاته يهربون، وعن دعوته يتثاقلون، ومن تبعات دينه يفرون.
ما لخطَّاب الجنة من اللاحقين قلُّوا؟ وما لعشاق الحور تخلَّوا؟ أَغَلا عليهم المهر أم رخصت عندهم العروس؟!
قال الحسن البصري في زمانه: "ما تزينت الجنة لأحد تزيُّنَها لأمة محمد، ومع ذلك لا تكاد تجد لها خاطبًا".. يا الله..!! قلَّ الخُطَّابُ في زمن الحسن البصرى، فكيف لو عاش إلى زماننا ورأى الجنة المنسية، والقلوب الخالية من الشوق إليها، والنفوس التي ما عادت تحنُّ إلى جنةٍ طلَب الله أن نسارع إليها ونِمنا عن طلبها..؟!
يا إخواني..
في الماضي من أجل الجنة هان كل شيء، وكان يخطب ودَّها في اليوم الواحد ألفُ خاطب، واليوم أتخيل الجنة كأبهى عروس وأجمل فتاة وأحلى مكان، ومع ذلك لا يكاد يخطبها في اليوم خاطبٌ واحدٌ!! أتدرون لماذا؟! لا لقُبح العروس.. ولكن لقُبح أذواق الخاطبين.. ألا قبَّح الله أذواقًا تدفع كل شيء لما ليس له ثمن، وتبخل بكل شيء عن الجنة!!
رمضان موسم الخُطّاب.. فهلموا إلى السبق والفوز.
أضف تعليقك