منذ نحو عامين أهدانى صديق مقيم بالخارج كتاب (المنتخب والمختار فى النوادر والأشعار) لابن منظور، وأبلغنى أنه أرسله عن طريق (البريد المصرى)، والطبيعى أن يصل الكتاب خلال أيام، إلا أنه بعد مرور ما يقرب من شهر اتصل بى موظف من البريد معلنًا اعتذاره عن عدم وصول الكتاب حتى الآن بسبب عرضه على (الجهة المختصة!) لفحصه، وأردف: (قد نحتاج حضرتك للمثول أمام الجهة المختصة إذا ما ظهرت مشكلة). وبعد يومين اتصل الموظف نفسه ليخبرنى بأن الكتاب سيصلنى خلال ساعة، ووصلنى بالفعل منزوع الغلاف.
اللغز فى هذه الحادثة؛ أن (الجهة المختصة) حساسة لأى مادة بها كلمة (انتخاب) أو (اختيار)؛ ولأنهم على درجة عالية من الجهل والريبة فقد ظنوا هذا الكتاب من النوع السياسى، وأنه يطعن في شرعية النظام، أو يشكك فى نزاهة الانتخابات، وطبعًا لم يسمع أحدهم بهذا الكتاب من قبل، ولا يعرف من هو «ابن منظور» فأحالوه للفحص، ولما لم يجدوه معارضًا أفرجوا عنه.
الشاهد من الواقعة أنهم يعرضون الآن مسلسل بعنوان (الاختيار)، ولم يلتفتوا إلى أن هذا العنوان يورطهم من حيث لا يشعرون؛ إذ لو كانوا يؤمنون بهذا الحق الإنسانى فليعمموه إذًا على سائر سياساتهم. قد يقول قائل إن (سيناريو) المسلسل يقصد بكلمة الاختيار معنًى آخر، وأن البطل اختار الوطنية دون الإرهاب الذى تورط فيه زميله، والاختيار هنا ليس بين متنافسيْن، بل بين نقيضين؛ حلال وحرام، أو وطنية وخيانة. أقول: لو أن ما تقولون صحيح ما احتاج هذا إلى مسلسل يتكلف الملايين؛ لأن الواجب الوطنى أو الحلال يُدرك بالفطرة، ولا يحتاج مفاضلة، وإلا كان صاحبه عديم الفهم عديم المروءة.
أنا أفهم الاختيار الذى يقصدونه في المسلسل على أنه الانحياز إلى النظام السياسى القائم، ومعاداة خصمه، وتشويهه، ووصمه بالإرهاب، وإهالة التراب على تيار بكامله يمثل غالبية الشعب المصرى، ويظهر بالتالى البطل (المنحاز) فى صورة الوطنى الشجاع المبادر، ويبدو الآخر في صورة الإرهابى الجبان المتردد. إذًا هى رمزية فاسدة، تم تطويعها سياسيًّا على غير الحقيقة فبدت مختلة غير موفقة.
وهذا التلفيق لا يعالج أزمة وطنية مستفحلة، ولا يضيف مؤيدين لمصدرى العمل؛ بالعكس فإن فى مثل هذه الأعمال ثغرات كثيرة تعرّى حقيقتها، وإن الإلحاح بها لتحقيق نسب مشاهدة عالية يدخل الشك فى وعى المتلقين، ممن يعيشون الواقع المخالف لما يرونه فى (السيناريو) والتفاصيل، ومن أولى الملاحظات التى سمعتها من المتلقين أن العمل يكرِّس للتقسيم المجتمعى، ويهدف، بصورة غير مباشرة، إلى تلميع النظام وقادته، ويستعين بدغدغة المشاعر (الوطنية!) فى الإقناع بحتمية بقاء هذا النظام العسكرى حاكمًا، وإلا تناوشتنا التهديدات من كل مكان.
إذًا المسلسل (إجبار) وليس (اختيار) كما بدا من عنوانه؛ إجبار المشاهد على الاقتناع بشىء هو اختيارهم، وليس بالإمكانية الضبط والمراجعة فى هذا الجو من التعتيم، كما ليس بالإمكانية النقد والتصحيح وإلا اتُهم الناقد بخيانة الوطن أو الإرهاب. وهذا استخفاف بعقول الجماهير، وإطلالة بمظهر يجافى الحقيقة، كمن قال: لا أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، فهو يحملهم على اعتناق ما يعتقده هو ولو كان شرًّا محضًا، وليس لأحدهم القدرة على مناقشته أو تفنيد ما يقول.
إن الاختيار سنة من سنن الله فى البشر، ولا يزالون مختلفين، وتعطيله تغيير لفطرة الله التى فطر الناس عليها؛ من ثمَّ كانت الأزمات، وكانت الدماء. والفرق بين المصلح والفرعون أن الأول يملك الحجة ويتحدث بالدليل والبرهان، وأما الآخر فيتحدث بلسان الكبر والبهتان، ويضج بالمناقشة والحوار.
أضف تعليقك