• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

طريق الدعوة كانت حياته كلها وقفًا عليه.. سار فيه منذ ريعان شبابه حتى مماته، وأخذ بيد الكثيرين للسير عليه، موضحًا لهم الطريق، شارحًا لهم الغايات والأهداف والوسائل، ومحذرًا من المنعطفات والعقبات، ومبينًا الواجبات والمتطلَّبات، وكان لحركته وجهاده أثر بعيد وعظيم.

وفي هذه المقالة يشرح للسائرين على الطريق أهمية الصوم كمنبع من منابع الزاد اللازمة للداعية على طريق الدعوة الطويل.. إنه درس تربوي من خبير بالدعوة والتربية.. وأي خبير!!

يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183)، فالصوم يُلبس صاحبه لباسَ التقوى، وهو جُنة وحصانة للصائم من الشرور والفتن، ويتميَّز الصوم من بين سائر العبادات بخاصية النسبة إلى الله تعالى، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه-قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه" (متفق عليه).

وقد ارتبطت فريضة الصوم بشهر رمضان، وإذا ذُكر رمضان فكأنما تُذكر جنةٌ فيحاءُ، يمر بها المسلم وهو يسير وسط صحراء الحياة ولفحها وفتنها، وإذا كان الصيام كله زادًا وخيرًا فكونه في شهر رمضان من شأنه أن يضاعف هذا الزاد، ويزيد الصيام بها خيرًا، فقد خصَّ الله شهر رمضان بخير كثير يجعلنا- لو علمنا هذا الخير- نتمنى أن يكون رمضان السنة كلها، ففيه نزل القرآن: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ (البقرة: 185).

وفيه ليلة القدر ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ (القدر:3،2)، وفيه تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفد الشياطين، وفيه يضاعف الأجر، وفيه الاعتكاف والقيام، وهكذا يَستقبل المسلم الصادق شهر رمضان بالفرح والسرور، فرح المؤمنين بفضل الله ورحمته، يستريح فيه من عناء الحياة، ويتزود ويجدد نشاطه كي يواصل السير على الطريق، ولا يستمتع بذلك الخير ويحصل على ذلك الزاد إلا من عاشَ رمضان وأدَّى الصوم، كما أرشد رسول الله- صلى الله عليه وسلم.

ففي شهر رمضان يزداد إقبالنا على القرآن تلاوةً وممارسةً وحفظًا، ونقوم به الليل فننهل بذلك من معين لا ينضَب نورًا وحكمةً وهدايةً وموعظةً وشفاءً لما في الصدور، وفي ذلك زاد أي زاد.

وفي شهر القيام يؤدي الصائمون القيام كل ليلة شهرًا كاملاً، وفي ذلك زادٌ مكثَّف، وتطويع للنفس على العبادة والصبر عليها وتذوقها، ومداومة الصلة والقرب من الله والخضوع والخشوع له.

وفي شهر رمضان يُسنُّ الاعتكاف، وللاعتكاف آثارُه وانطباعاته على المعتكف، فهو يعيش فترةً في ضيافة الله في بيت الله، وقد خلص من مشاغل الحياة وتفرَّغ لطاعة الله والتقرب إلى الله بالذكر والصلاة والدعاء والمناجاة وقراءة القرآن والاستغفار والتوبة والبكاء من خشية الله، وهكذا يكرِّم الله أضيافه فيفيض عليهم بأنواره وهدايته، ويخرجون مزوَّدين بزادٍ من التقوى والإيمان والرشاد، وفي وسط آيات الصوم تجد قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186).

والصوم يُكسب الصائم صفة الإخلاص لله وحسن مراقبته؛ لأنه سرٌّ بين العبد وربه، والإخلاص لله من أعظم وألزم الزاد لكل مسلم على طريق الدعوة، فلا خيرَ في عملٍ أو جهد إذا خلا من الإخلاص لله سبحانه، فالله غنيٌّ عن الشركة، ولا يقبل إلا العمل الخالص لوجهه.

والصوم فيه مجاهدة لرغبات النفس والجسد، وفي ذلك تقوية لإرادة المسلم، وهذا زاد لازم ضروري للداعي إلى الله والمجاهد في سبيل الله.. فالصائم يكبح جماح نفسه وشهواته على الحلال فترةً من اليوم طوال الشهر أداءً لعبادة الصوم، وفي ذلك عونٌ له على أن يمتنع عن الحرام باقي الأوقات.

والصوم يُكسب الصائم فضيلة الصبر، وهى من ألزم الصفات للدعاة إلى الله، فيعينهم الصبر على تخطي العقبات ومواصلة السير على طريق الدعوة، دون وهن أو ضعف أو استكانة: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146) فلا يثنيهم وعيد أو تهديد أو إيذاء أو تشريد.

والصوم يربي الجوارح ويهذبها شهرًا كاملاً، فتعتاد ذلك فلا يقتصر الصوم على شهوتي البطن والفرج، ولكن الصوم الصحيح أن تصوم الجوارح كلها عن كل ما حرَّم الله، فالعين والأذن واللسان واليد والرجل بجانب الفم والفرج، وهذا جانب تربوي هام في شخصية المسلم.

والصوم يُكسب صاحبه فضيلة الحِلم على الجاهلين، فإذا خاصمه أحد أو سابَّه أو استثاره يكظم غيظه ويحلم، ويقول إني صائم إني صائم، وما أحوجَ الداعين إلى الله إلى هذا الخلُق.. من ضبط النفس، وسعة الصدر، وعدم الغضب للنفس، وفي هذا كسب لصالح الدعوة: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: 159)، وفي هذا أيضًا توفير للوقت والجهد لصالح الدعوة والإنتاج، بدلاً من تضييع الوقت والجهد نتيجة الغضب في جدال وخلافات وتحقيقات ومصالحات، ويكون الضحية الدعوة والإنتاج والعمل لها، وصدق الله العظيم: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (فصلت: 34).

والصوم يربي في قلب الصائم العطف على الفقير والمحتاج، حينما يشعر بألم الجوع فيسارع إلى مد يد العون له، وجاءت زكاة الفطر لتؤكد هذا المعنى وتذكِّر به، وهذا جانب تربوي هام، ويلزم أن يسود بين المسلمين.

أثناء الصيام وخلوِّ المعدة وتخفيفها من الطعام تسمو الروح، ويصفو القلب، وتزول الحُجُب وجواذب الأرض، فيكون الصفاء والإشراق، ويشعُّ نور الحق في القلوب فيضيئها وتتهيَّأ النفس للتزكية بالذكر وتلاوة القرآن والاستغفار والتوبة والدعاء، وتكون السعادة الحقة والمتعة الروحية والشعور بالقرب من الله، ويؤكد هذا المعنى قول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع" (متفق عليه).

والصوم- وخاصةً أيام الحر الشديد- يهيئ المسلم للصبر والتحمل في ميادين الجهاد والقتال ومجالدة الأعداء أو ما قد يمر به من ظروف قاسية في مجالات الدعوة وميادينها، ولا تكون جواذب الأرض ومطالب الجسد معوقًا له أو مقعدةً عن مواصلة السير.

والصوم يعلِّم الصائم ما يفرح له المؤمن من توفيق الله وعونه لأداء العبادة والإخلاص لله، حينما يذكِّرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن للصائم فرحتَين إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (يونس: 58) وفي هذا تصحيح لتصورات خاطئة عند الكثير، عندما يفرحون لأعراض الدنيا، حينما تقبل عليهم ويحزنون عند افتقادها.

والصوم يدعم معنى الجماعة في نفس الصائم، فالمسلمون في أنحاء العالم يصومون في شهر واحد، ويحسون أن ما فيه من خير بسبب الصوم، وشهر رمضان يشاركهم فيه إخوانهم في جميع أنحاء العالم، على اختلاف أجناسهم وألوانهم، والشعور بوحدة المسلمين أمر هام ولازم، خاصةً لأصحاب الدعوات.

ولِما في الصوم من خيرٍ سنَّ لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صيام أيام غير الفريضة على مدار العام، رغَّبنا في ذلك من منطلق حرصه- صلى الله عليه وسلم- وحبه الخيرَ لنا، وإذا كان من رحمة الله بنا وحبه الخير لنا أن يسَّر لنا الصلاة في السفر والمرض والحرب، ولكنه خفَّفها بعض الشيء علينا حتى لا نُحرم خيرها وزادها؛ فإنه- سبحانه- من منطلق رحمته بنا وكي لا يشق علينا رخَّص لنا في الصوم بالقضاء أو الفدية في السفر أو المرض.

والصوم يربط المسلم بهذا الكون، وما فيه من أقمار ونجوم؛ حين يتحرى أول الشهر، ويبحث عن الهلال في أول رمضان وأول شوال، ويتحرى مطالعه، ويتعرف على هذا الجانب من خلق الله وما فيه من دلالة على عظمة الله وقدرته.

والصوم يعوِّد المسلم على الاهتمام بالأوقات والدقة في المواعيد، فكل صائم يتحرى وقت الإمساك ووقت الإفطار ويُدقق في ذلك؛ حتى لا يبطل صومه بسبب الإهمال أو عدم الدقة، وتكرار ذلك كل يوم لمدة شهر يُكسب صاحبَه هذه الخاصية، وما أحوج الداعين إلى الله إليها في حياتهم بالدعوة ولقاءاتهم وعملهم بما لا يتسبَّب في تعطيل أمر هامٍّ، أو ضياع أوقات غيرهم دون فائدة.

والصوم مع ذلك كله له آثارُه الصحيَّة المبارَكة على الجسد، وقد كشف الطبُّ الحديثُ هذه الحقيقة أخيرًا، ولجأت بعض "المصحَّات" إلى الصوم كوسيلة فعَّالة في علاج كثير من الأمراض.

كل هذا الزاد وهذه الآثار التربوية في الصوم وشهر رمضان سهلةٌ المنال لمن صدق النية وصام، كما يريد الله لنا أن نصوم، وكما علمنا رسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم.

أضف تعليقك