كشفت جائحة «كورونا» حقيقة النظام العالمى؛ وأثبتت أنه (عالم من ورق)، فلم يَطُلِ الوباء كثيرًا ولم تبلغ ضحاياه ما بلغته ضحايا الحروب والوباءات السابقة؛ ورغم ذلك انهارت اقتصاداته وأسواقه، وتوقف نقله وطيرانه، ولم تغن آلةٌ ولا مختبر، ولم تسلم من الخطر دولة من الدول، عظيمة كانت أو حقيرة.
أما بعد نجاته؛ فسوف يفيق هذا النظام على خسارة كبيرة، جراء تعطل الإنتاج، والوقف الاضطرارى للحركة بين الأقطار. وحتى تعود الأمور كما كانت من قبل فسوف يستغرق ذلك وقتًا كبيرًا، وربما تداعت أمور لم تكن فى الحسبان، أو بدت على غير ما قُدِّر لها؛ خذ مثلًا: تنبأ خبراء بتضاعف المجاعات إثر الجائحة؛ هناك [821 مليون شخص يعانون الجوع، 150 مليون طفل يعانون التقزم، إحصائية عام 2017م]، وهناك [195 مليون شخص فقدوا وظائفهم فى الأسابيع الأولى للجائحة، منظمة العمل الدولية، أبريل 2020م]؛ فماذا سيكون الواقع والأرقام هكذا، قد تضاعفت؟ وهل سيكون بمقدور العالم المأزوم علاج هذه الكوارث وقد عجز عن حل نصفها وهو بعافيته؟ وقسْ على ذلك تداعيات باقى المجالات.
كان بإمكان العالم أن ينجو من هذه المحنة ومضاعفاتها لو أنه سالمٌ من الظلم والقبح والأثرة، غير أن الفشل الحالى والعجز المتوقع نتيجة حتمية لانعدام الأخلاق، ولسلوكه القائم على المادية الفاسدة، التى خولته الإجرام فى حق الإنسانية دون الشعور بأدنى حرج. وها هو يلقى جزاء انحرافه وافتتانه بقواه، فما نفعه ذلك كله، وتحقق فيه أمر الله الذى تحقق فيمن سبقه من المتكبرين (حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْس) [يونس: 24].
وكيف ينجو العالم وحروبه لا تنطفئ؟ وقتلاه لا يحصيهم العدُّ؟ وهى حروب يشعلها المجرمون الكبار لأجل مصالحهم، ومعلوم ما يتولد عنها من تقسيم وتهجير وبلاءات، في حين يجلس هؤلاء الكبار فى موقع النظارة حتى تنجلى المعركة عن حصاد حرام تنتفخ به خزائنهم.
لقد امتلأ العالم فقرًا كما امتلأ ترفًا وبطرًا، وفى حين يموت الملايين من الجوع يموت مثلهم من التخمة. وكما يحرصون على إشعال الحروب يحرصون أكثر على نشر الأمية والجهل وتجفيف منابع الوعى، فهو لذلك عالم بلا عقل، إلهه المادة، ورسوله الدولار، وقرابينه الإباحية والشذوذ، أما القانون السائد فهو قانون الغاب، (الفيتو) فيه للأقوى؛ من ثم َّإذا سرق فيهم القوى تركوه، وإذا فعلها الضعيف أقاموا عليه الحد.
لا أتصور أن العالم بعد هذه الجائحة، التى لا تخلو من ألغاز، سوف يتغير كما يأمل البعض، بل ربما صار أكثر ارتباكًا وفوضى؛ لأن مثل النظام كمثل الأنظمة المستبدة التى تحكمنا؛ فهو بلا ضمير، ولا يعرف الفضيلة، ولا يرى إلا نفسه، ولا يعمل إلا لمصلحته، نظام يحيا على الكذب، ويقول ما لا يفعل، وهو على استعداد للمتاجرة بالبشر، وإحياء معاملات شيطانية أبطلتها البشرية فى مسيرتها الحضارية.
والفرصة مواتية للمسلمين؛ لإعادة طرح دينهم على العالم، خصوصًا تلك الشعوب المكتوية بلهيب الجائحة، وقد لمستْ بعضًا من رحمة الله فى هذا الدين، كما لمستْ جفاءه للعنصرية وما شابهها، نريد للإسلام أن يتخطى حواجز الأنظمة، المحلية والعالمية، بالدعاية لفضله على الإنسانية، وأنه جاء لإنقاذ البشرية من أنانيتها؛ وقد رأينا الأمريكان، رغم الأزمة، يلقون بأطنان الحليب فى الأنهار لئلا تنخفض أسعاره، ورأينا دولًا تسرق أدوات طبية لدول أخرى هبطت طائراتها (ترانزيت) فى مطاراتها.
نريد العالم الرحيم، وليس الفظ الغليظ، نريد عالمًا متسامحًا، بارًّا بالبشرية، الناس فيه إخوة متساوون، سمتهم العفو، وشعارهم الحرية، نريد نظامًا يوفر الأمن والطعام للجميع، ويرى أن الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم أمة واحدة، قائمة على التقوى، مجتمعة على كلمة سواء، عادلة، مقسطة، لا شية فيها.
أضف تعليقك