صدمتنا مشاهد الجماهير الرافضة لدفن الطبيبة -رحمها الله- التى ماتت بـ”الكورونا” على حدود قريتى “شبرا البهو” و”ميت العامل” بأجا/الدقهلية؛ لأن هذه ليست أخلاق الإسلام, وليست تقاليد القرية وأعرفها, ولا تليق بحرمة الميت, بل هى أفعال همج رعاع, وسلوك طائش مشين.
ماذا جرى للناس؟ وماذا دهى المصريين؟ وماذا فعلت المتوفاة بأهل القرية حتى يتنادوا بلفظها بدلًا من إكرامها ودفنها؟ لقد تحدث زوجها, وهو رجل مثقف ملتزم دينيًّا, حديث المصدوم؛ فعائلته: زوجته الطبيبة وأبناؤه: أربع طبيبات وولد مهندس لا يبخلون على أبناء القرية بشىء, ولم يكن بينهم وبين أحدهم عداوة, وقد فوجئوا بهذه الغوغائية التى منعت دفن زوجته لمدة ست ساعات حتى أتت قوات الشرطة وأفسحت الطريق للإسعاف إلى المقابر.
إن طارئًا خبيثًا طرأ على “المحروسة” فأفسد الأخلاق, ونكَّس الفِطَرَ، ومهَّد الأجواء لهؤلاء لممارسة سلوكهم المتهور، بما فيه من حمق وجهل ورعونة, والنتيجة كما رأينا: مظالم بالجملة, وانقسام مجتمعى حاد، وتغييب عمدى للقانون, وعدم مراعاة لحرمات الدين, وتخلف وانحطاط لا مثيل له.
أما متى طرأ هذا الطارئ وكيف استشرت عدواه فى المجتمع؛ فكان ذلك قبيل وقوع الانقلاب؛ لما بدأ التحريض ضد قسم من المجتمع, فاستحلوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم, واستعانوا بهؤلاء (السوقة) لتنفيذ هذه الجرائم غير الإنسانية, فكانوا يخرجون فى جماعات كقطعان الحيوان يحرقون ويدمرون, وينشرون الفوضى من دون مبالاة, بعدما أمنوا العقاب, وقد وعدتهم (السلطات!) بأنهم لن يخضعوا لقانون, ولن يتهموا-يومًا- بجناية.
حكى لى من أثق به أن إمام مسجد (واعظ رسمى) فى قريتهم، سليل بيت علم وأدب, تقدم للصلاة -كعادته- يوم حادث (رابعة)؛ فإذا برجل يعمل (عربجيًّا) يشده من قفاه ويمنعه من الإمامة؛ فما استطاع أحد من المصلين -على كثرتهم- أن يدفع (العربجى) عن العالِم, ابن الأكرمين, بل الأدهى أن (العربجى) اختار إمامًا آخر وقدمه للصلاة, فصار هو (الإمام الراتب). اقرأ الحادثة بتمعن لتدرك كيف صيرنا العسكر إلى هذا المستنقع حتى صار المجتمع غير رشيد, وحتى صار أراذل القوم, هم قادة الرأى فيه!
وهذه الأفعال الإرهابية قد ترسخت لدى طائفة شاذة فى المجتمع, وصارت سلوكًا عند بعضهم خصوصًا فى القرى، عند من لا نسب لهم ولا عائلة؛ إذ تحالفوا مع (الدولة) وظنوا أن (لسلطة) تحميهم على طول الخط, وإن من خرجوا لمنع دفن جثمان الطبيبة هم أنفسهم من قطعوا الطرق يوم رابعة وفتشوا المارة وقتلوا بعضهم على الهوية, وقد نصبوا أنفسهم منذ هذا اليوم (مواطنين شرفاء!) يحمون الدولة, والحقيقة أنهم عبيد النظام, يستخدمهم وقتما يشاء, ويردعهم وقتما يريد, لقد أرغموا الإسعاف على العودة, وسبوا السائق وكسروا زجاج السيارة, وكثرت أعدادهم, وحسب الناس أنهم يقدرون على شىء, ثم جاءت (مدرعة) واحدة فلم يبق أمامها (راجل) منهم.
تحدث “جوستاف لوبون” في كتابه الأشهر (سيكولوجية/ أو روح الجماهير) عن صفات (الغوغاء), وسلوك القطيع وأن الفرد فيهم عندما يرتكب القتل أو التدمير أو ينشر الفوضى فهو يثق بأنه غير مسئول عن أفعاله, وهذه حالة (نفسية) تترسخ فى ذهن الفرد تدفعه لسلوك الغرائز البدائية, وهو يبرر هذا السلوك الغرائزى الذى لا يختلف عن سلوك الحيوان, وعلى قناعة بأنه سلوك مقبول, بل مندوب, غير مدرك أنه انتكاسة سلوكية خلطت بين الخطأ والصواب.
وفى علم النفس أيضًا أن المجتمعات المستبدة, أو كما يطلقون عليها (المجتمعات الموبوءة) تنشأ بها طوائف تجعل من نفسها (سلطة قاهرة) تقنن لنفسها أفعال السلطة الرسمية. وهذا السلوك يختبئ خلف حالة من الهزيمة والانكسار, وفقدان المقاومة للخصم المستبد, فتشعر بالقهر, ولا يزال هذا القهر يلح عليها حتى تتخلص منه بالانتقام من طرف أضعف, وليس شرطًا أن يكون خصمًا, بل طرف يأمنون سطوته؛ تعويضًا لهم عما يلاقونه من الخصم الأقوى والأشرس -وهذا فى رأيى عين ما جرى فى “شبرا البهو”؛ إذ لولا (طيبة) زوج المتوفاة ما جرؤ أحدهم على تعطيل دفنها, ولو أن له عائلة ذات سطوة ما خرج واحد منهم معترضًا.
والقرآن الكريم لم يخلُ من الإشارة إلى مثل هذه المواقف (المخزية), لأقوام لا ينقصهم الغباء, وانعدام المروءة، وقلة الحياء. حدث هذا مع نوح وقد سخروا منه وتنمروا به, وحدث مع إبراهيم وقد هزمهم بحجته, وكان أمة, فاجتمعوا عليه يريدون حرقه، فأنجاه الله منهم, وحدث مع لوط الذى راودوه عن أضيافه (الملائكة) بعدما اقتحموا عليه بيته, وهو يدفعهم عنه, حتى طمأنته الملائكة.. وجرى ما جرى من إهلاك القوم المجرمين.
أضف تعليقك