• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

كان من المفترض، في مثل هذه الظروف الوبائية، أن يتواضع الخطاب السياسي قليلًا، وينسحب مفسحًا المجال للكلام الطبي، لكننا، وبما أننا شعوب منطقةٍ موبوءةٍ بالعسكرة والطغيان والاستبداد، لم تكن جائحة كورونا بالنسبة للجنرالات الحاكمين سوى فرصة لمضاعفة كميات العسكرة.

ولو أضفت إلى ذلك أن من الجنرالات من يرى نفسه منذ وقت مبكّر طبيبًا للفلاسفة، وحكيمًا يغترف من محيط العلم اللدني، المتجاوز قدرات البشر وحدودهم المعرفية، فمن المنطقي أن يستغل عبد الفتاح السيسي الفرصة، لكي يقول مجدّدًا للمصريين إن كل أشرار ما عدا الجيش، وأن الخطر يحدق بهم من كل جهة، إلا جهة القوات المسلحة.

في هذا المناخ "الدولتي" العاصف، لا قيمة للفرد هنا، إذ تستمر النغمة الفاشية ذاتها: تحيا الدولة والأفراد إلى الجحيم، ومن ثم لم يعد عداد الوفيات يشغل أحدًا، كما أن إيقاع العد لا يلفت النظر أو يهزّ الوجدان، مع تكرار الإحصائيات اليومية.. ألف قتيل في إيطاليا اليوم، تسعمائة وفاة في إسبانيا، أكثر من ألف في نيويورك، تعاد هذه الأرقام بإلحاح، بالتزامن مع تصاعد الخطاب الذي يرسّخ مفهومًا فاشيًا عريقًا: لا يهم أن يموت المواطن، المهم أن يعيش الوطن. وبهذا الشكل أصبح الإنسان لا يساوي جناح بعوضة، أو رباط كمّامة، بنظر النظم المتسلطة.

على أن ما يثير الأسى هو أن تهاوي سعر الإنسان وانهيار قيمته لم يعد قاصرًا على منظور النظم المستبدة فقط، بل صارت نظرة الفرد إلى الفرد، ونظرة الإنسان إلى نفسه، لا تختلف كثيرًا. وتحت تحت حصار كورونا تنبعث رائحة عنصرية من هنا وهناك، تتخذ أشكالًا ودرجاتٍ مختلفة، من قمة هرم الفاشية إلى قاع الشوفينية السحيق. وفي لحظةٍ كان المفترض أن يستعيد الناس معها فطرتهم السويّة، ويسلكون على اعتبار أن كل البشر سواء، وأن الناس سواسية كأسنان المشط، لا تعدم أن تجد قطاعاتٍ تمارس الاستعلاء على أساس العرق والمعتقد الديني واللون والأيديولوجيا كذلك.

حتى على مستوى الخطاب الصادر من المعارضة، ثمّة دونية تمارسها النخب التي تتصدّر المشهد تجاه النظام، ما يجعلها تنتقل من دون مبرّر منطقي أو أخلاقي من حالة المقاومة المبدئية للظلم والطغيان والقهر إلى حالةٍ أقرب إلى تسول الاقتراب من الطاغية والدوران في فلكه، فيما يمعن الطاغية في السخرية من هذا الانبطاح المجاني، ويمضي واثقًا من أن أحدا لا يستطيع إزعاجه، ليطمئن إلى أن سجونه مكتملة العدد، إذ لا شيء يُمتعه أكثر من أن يُحصي سجناءه كل يوم، حيث لا يشعر بالأمان إذا قلّت الكثافة داخل الزنازين. صحيحٌ أنه، من وقت إلى آخر، قد يفرج عن عشرة، لكنه يقبض على عشرين وأكثر عوضًا عنهم، لا يعرفهم أو يسمع عنهم أحد، يضافون إلى عشرات الآلاف من المكدّسين في السجون الذين يتم استحضار الإحصاءات الخاصة بهم في مناسباتٍ انتقائيةٍ تشهد حملاتٍ موسعةً تستهدف الحصول على حرية بضعة أشخاص، يفرج عنهم النظام وسط صيحاتٍ وهتافاتٍ تبارك وتهنئ، وتجمّل وجه السلطة، وكأن انفراجة قد جاءت.

اللافت أن هذه الحملات يغلب عليها طابع الاستعراض، أكثر من كونها تعبيرًا عن إرادة حقيقية للحرية للجميع، إذ لا يخجل أولئك الذين نالوا حريتهم، تحت ضغط كورونا، من الاستمرار في ممارسة التصنيف والتمييز والانتقائية العنصرية، في التزامٍ تام بمسطرة السلطة، وحديثها الكذوب الذي يصم كل معارضيها الجذريين بالعنف والإرهاب.

من هؤلاء المنسيين بالسجون تكتب سيدة محترمة تعليقًا على توسلات وتسولات أطياف من المعارضة للنظام، فتقول ببساطة: "يعني وأنا المسنّة ومن سبع سنين لوحدى بعد أن قتلوا ابنى الكبير عمر محمد زكريا وحبسوا والده  40 سنة،  وحكموا على ابنى عبد الله بالمؤبد  بعد محاكمة عسكرية، وحبسوا ابنى إسماعيل، وحبسوا ابنى إبراهيم محمد زكريا عامين مؤبد، بالإضافة إلى أربع سنين، واختفى ابنى الصغير.. وآﻻف الأسر في السجون وآﻻف الشباب في القبور، ناهيكم عن اﻻفتراءات بحقنا وسرقة ممتلكاتنا وحقوقنا، ثم يأتي أحدهم ويتناسى كل هذا، ويريد البدء من جديد بدعوى محاربة كورونا، بل إن أحدهم عرض أن يدفع السجين للدولة خمسة آﻻف جنيه، لكنه لم يقل كم ندفع لهم دية لمن قتلوهم؟ يعنى كم أدفع لهم لقتلهم ابني عمر".

هل لدي أولئك الذين يتسوّلون اصطفافًا ينطلق من كورونا، ويتمدّد إلى ما وراءه، إجابات لأسئلة هذه السيدة؟.

أضف تعليقك