بين الشريعة والسياسة يتردد شطر كبير من همّ جائحة "كورونا"؛ يتردد بينهما حائراً؛ إلى حكم أيٍّ منهما ينتمي؟ وبأمر أيٍّ منهما يصدع راضياً أو راغماً، والسبب في هذا التردد هو ذلك الفصام النَّكد بين الدين والسياسة؛ وهو فصام مُفتَعَل وفصل مُبتَذَل؛ فما السياسة إلا الإصلاح والاستصلاح، بحمل الكافة على مقتضى الاستقامة؛ بحيث يكون أمرهم أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وما الدين إلا الاستقامة التي تجتهد السياسة في حمل الكافة عليها بالترويض والتسييس تارة وبالإكراه والإجبار تارة أخرى، وجُماع وظائف الدولة: حراسة الدين وسياسة الدنيا به، هذا خلاصة ما قرره المتقدمون أجمعون.
أمّا "كورونا" فهو جائحة تتأرجح بتداعياتها بين الطبيعة والشريعة، وتتذبذب بتحدياتها بين الأحكام والحكام، غير أنّ سلوكها هذا لم يمنع من اتحاد الجهات عليها والتقاء الجبهات ضدها، فأمّا الطبيعة فهي محكومة بنواميس إلهية تقضي بزوال الجائحة عاجلاً أو آجلاً، فالله تبارك وتعالى لم يُنزل داء إلا وأنزل له دواء، عَلِمه مَنْ عَلِمه وجَهِله مَنْ جَهِله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا عِبَادَ اللهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ شِفَاءً)([1])، فهذا الحديث جمع بين الطبيعة والشريعة في مواجهة الأدواء، فبَيَّنَ السُّنَّة الكونية التي أودعها الله في الطبيعة، وأمر أمرا شرعياً بالتداوي، والأمر بالتداوي أمر بالتماس الدواء لما لا يعرف له دواء من الأدواء؛ فالطبيعة والشريعة تلتقيان على بثّ البشرى بزوال النقمة وقدوم النعمة وانتهاء الأزمة، لكنّ المهم هو القيام بما يجب علينا كما أمر الحديث.
وقد تحركت الأحكام واستثارت معها الحُكَّام تجاه الجائحة؛ لحسم كثير من الأمور التي تتطلب حزماً محمودَ العاقبة، فها هي الدولة تأخذ التدابير التي ألزم بها الخطاب الشرعيّ، فهذا رسول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في جائحة شبيهة بهذه الجائحة: «الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا، فِرَارًا مِنْهُ»([2])، وهذا تشريع للحجر الصحيّ الذي لا تتم ممارسته إلا بإدارة وحكم وسياسة وإيالة.
وقد فهم عمر والصحابة بفطرتهم وسليقتهم أنّ التوجيه النبويّ لا يتم القيام به إلا عن طريق التدبير وسياسة الخلق؛ لذلك جرى الأمر في مواجه طاعون الشام على هذا النحو من الشورى والسياسة والتدبير، ثم بالعمل بالأمر الذي تلتقي عليه الشريعة والطبيعة.
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ، أَبُوعُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِي المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ، وَلاَ نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِي الأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ المُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُوعُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؟ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ، وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ - فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ([3]).
نواميس الكون
ومن النواميس الكونية التي تحكم حياة الشعوب ذلك القانون الذي أشار إليه القرآن إشارة مجملة في هذه الآية: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى30)، وجاءت بعد ذلك السنة بالتنويع والتفريع، من ذلك: (لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا؛ إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا ...)([4])، ثم جاءت السياسة لتدخل بموجب اختصاصاتها هذا الأمر ضمن اهتماماتها، فها هو أبوبكر في خطبته السياسية التي وضع فيها قواعد الحكم الرشيد يقرر وينبه: (وَلا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ إِلا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْبَلاءِ)([5])؛ وبهذا يتضح لنا أنّ الطبيعة والشريعة والسياسة تتضافر لمواجهة الجوائح.
وإنّ أهمّ ما يستفاد من مثل هذه النازلة هو هذه الحالة من التضامن الفطريّ بين الخليقة جمعاء، ألا ترى الناس في مشارق الأرض ومغاربها يشعرون شعورا واحداً بالخطر؟ ويتبادلون المشاعر الطيبة والأمنيات الكبيرة بتخطي الأزمة وتجاوز المحنة؟ حتى كثير من المؤسسات الدولية الكبرى بدأت تتعاطى مع الحدث بروح يغلب عليها الطابع الإنسانيّ؛ إنّها الفطرة التي تنتفض وتنفض عن كاهلها صدأ الصراعات الدنيوية الهابطة، منذ زمن بعيد لم نشعر بأنّ الإنسانية تتقارب وتحاول أن تتراحم، ولم لا؟! أليست هي نفحة من أمر الله الذي قال: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة 143).
ألا إنّه قد آن للبشرية أن تتخلى عن جحودها بالخالق وكفرها بأنعمه، وأن تلتمس نجاتها وصلاح أمرها كله في عاجل أمرها وآجله بالرجوع إلى الله، وترك ذلك الغرور الذي أصابها حتى تصورت أنّها تسلمت السيادة على الطبيعة بعد "موت الإله!"، لقد بات هذا الغرور وهذا الزعم والادعاء شيئا سخيفاً منافيا لإنسانية الإنسان، و"إنَّ أعداداً متزايدة من الأفراد المهتمين تعلو أصواتهم بقناعة جماعية مفادها أنّ العالم لا يحتاج سوى نظرة جديدة للمستقبل، تعتمد على نظام قيميّ جديد"([6]).
في ملعب السياسة
ولقد غدا الكثيرون اليوم في العالم كله ولهم رؤية للبشرية وللكون وللعلاقة بينهما مختلفة تمام الاختلاف عن الرؤية المادية السابقة، رؤية تقوم على النظر للكون على أنَّه كون واع يتميز بالتنظيم الذاتي والتماسك والقصدية، وعلى النظر للواقع على أنَّ له أبعاداً تتجاوز الحدود المادية الفيزيقية، وعلى التسليم بالوعي الجمعي والارتباطات البينية بين العقول، وعلى المزج بين العلوم والروحانيات، وعلى ضرورة العودة لمعايير الأخلاق الفطرية([7]).
إنّ الكرة الآن في ملعب السياسة، والمسؤولية اليوم ملقاة على عاتق المسؤولين الكبار، لابد من المسارعة إلى وضع الجوائح عن الخلق ورفع العقوبات عن الأمم وإيقاف الحرب على الشعوب، هذه الجائحة تذكرنا بقاعدة شرعية سياسية فطرية، قررها نبيّ الإنسانية الذي أرسله الله رحمة للعالمين، حيث أمر بأن يكون هناك موقف إنسانيّ تجاه الجائحة، فعن جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح»([8])، وعلى الرغم من ورود الحديث في جوائح تصيب الثمار فإنّ اللفظ عام؛ والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، و"الجائحة كاسمها"([9]) تجتاح الناس، فكل ما يجتاح الناس ويعم الخلق من المصائب والابتلاءات والمحن يجب أن يحمل الأقوياء على وضع آثار الجائحة عن خلق الله.
الرحيل
وبمقتضى هذا فإنّ الإدارة الأمريكية مطالبة بموجب قانون الطبيعة وميثاق الفطرة وقواعد العدل ومواثيق الحقوق وأحكام الشرائع كلها أن تضع عن كاهل الإنسانية الجوائح كافة، سواء في ذلك العقوبات الاقتصادية التي افتعلتها لأسباب مختلقة، أو الديون التي أثقلت بها الأمم وأفقرت بها الشعوب بسياسات العولمة الاقتصادية وأساليب الاستعمار المختلفة، وذات الواجب يلقى على عاتق الأمم المتحدة التي عاشت دهرها تخدم مصالح الدول العظمى وتوطد أركان النظام العالميّ الجائر (البائد) بمشيئة الله.
آن الأوان للدول الخمس أن ترحل، وأن تخلي بين البشرية وفطرتها، آن لها أن ترحل قبل أن تقول الشعوب لها ولسياساتها الاستعمارية المستبدة: ( Veto).
أمّا الأنظمة الدكتاتورية المستبدة، أمّا نظام الانقلاب وعلى رأسه السيسي عدو الإنسانية؛ فلا مكان له في العالم الجديد الذي سيتشكل حتماً على صورة غير التي يراها العالم الآن، لا مكان له إلا في البقعة النَّتِنَة من ذاكرة التاريخ؛ فلا يغرنكم الشيطان أيها المستبدون بما أوتيتم من قوة ومكنة؛ فقد رأيتم حجمكم وقوتكم على الحقيقة، رأيتم كما رأى غيركم كيف أنّ فيروساً لا يرى بالمجهر العاديّ أغلق طريق الناس واعتقلهم في بيوتهم وحرم عليهم ما يشتهون من التنقل والترحال!
إنّ الله تعالى هو المهيمن العزيز الجبار القهار، وهو كذلك العفو الرحيم الغفار، وما أجمل هذه الكلمات التي تضع الخلق في وضعهم الطبيعيّ بين رغب ورهب: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)) (الحجر 49-50).
أضف تعليقك