بقلم د. محمد الصغير
تسارعت وتيرة الأحداث والإجراءات الاحترازية بعد انتشار وباء كورونا، وفرضت على الناس أنماطا معينة تخالف ما اعتادوا عليه في حياتهم اليومية وطريقتهم المعيشية، بما يمكن أن نطلق عليه انقلاب كورونا، أو حصار كورونا، ولست ممن تمر عليه كلمة انقلاب أو حصار من دون أن تكون له معها وقفة أو نظرة، لأنني وقطاعات أنتمي إليها نحيا منذ بضع سنين في آثار الانقلاب ثم في توابع الحصار، التي انضم إليها كورونا فأكمل الثالوث النَّكِدْ، الذي لم نفاجأ بكثير من آثاره التي فزع الناس منها وارتاعوا لها! لأن طاعون الانقلاب، ووباء الحصار سبقوا إلى كثير منها...!!
أعني انقلاب الثالث من يوليو 2013 على ثورة الخامس والعشرين من يناير ومنجزاتها في مصر، الذي فرض على الرافضين له، والمستمسكين بها مفارقة أحبتهم، وعدم الاجتماع بهم، أو المشاركة في أفراحهم وأتراحهم، وحرمهم وظائفهم أو متابعة أعمالهم.
ومنهم من فرض عليه الانقلاب حجرا وحجزا، أو اعتقالا وحبسا، ومن قُدَّر له النجاة بنفسه، واختار جوار من لا يُظلم عنده، ضيقوا عليه هجرته، واتبعوا أثره وقيدوا حركته، فمنعوه حق التنقل والضرب في الأرض، وعطلوا عنه جواز السفر.
الحرمان من خطبة الجمعة
وعلى صعيد خاص حُرمنا خطبة الجمعة ودروس المساجد، وأذكر يومها أنني قلت لمحدثي: ما كنت أحسب أن فقدان المنبر كفقدان الولد! حيث شعرت يومها أني فقدت عزيزا كبيرا، فقدته وما سلوته، وكلما جاء اليوم الأغر تحركت لواعج الشوق، وتاقت العين لرؤية وجوه المصلين، ولا يقطع ذلك إلا سلام الخطيب فأحمد الله وأسترجع، وأرد عليه السلام.
وفي الخامس من يونيو/حزيران 2017 حاصرت السعودية والإمارات جارتهما قطر، وتابعتهم في ذلك البحرين ومصر، وأعادوا للأذهان صورة من جاهلية العرب عندما حاصر جهلاء قريش أشقاءهم وبني عمومتهم في شِعْب أبي طالب ثلاث سنين ! لا يبيعونهم ولا يشترون منهم، ولا يتعاملون معهم، وأغلقوا حدود الشِعْب عليهم، ولا أدري وقد دخل حصار قطر عامه الثالث هل سينزع القومَ شيءٌ من مكارم الجاهلية، فيسمعوا صوت عقلائهم كما فعلت قريش الأولى؟
لم نشعر نحن مع كورونا بألم الحرمان من الطواف ببيت الله الحرام، أو الصلاة في روضة النبي عليه الصلاة والسلام لأن ذلك حدث مع الحصار، ولم نشعر بإغلاق الحدود ومنع الطيران لأنه فرض علينا من الجيران !
لم يكن جديدا علينا أن نكون في بلد وأزواجنا أو أولادنا في بلد آخر فهذا حالنا من سنين..
لذا تذكرت قول أبي تمام:
قَدْ ينْعِمُ اللهُ بِالبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ
وَيَبْتَلِي اللهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ!
بارقة أمل
إن الانقلاب والحصار كانا تدريبا وتهيئة، حيث فقدنا معهما نعما سلبت منا قهرا وجورا، ثم سلبت من الجميع مرضا وخوفا!!
لكني أرى في ذلك بارقة أمل، وبوادر فرج، فإن المصيبة إذا عمت خفت، وإذا هالت هانت، وإن الغيوم إذا تكاثرت هطلت، وإن ظلمة الليل إذا اشتدت وادلهمت فقد اقتربنا من بزوغ الفجر وانتشار الضياء،
ولعل هذه المحنة العامة تُذكر غافلا، أو تَشفي حاقدا، وتُرَشّدُ داشرا، فيدركوا أننا في سفينة واحدة، تتلاطمها أمواج عاتية، وأن من يسعى لخرقها هو أول الهالكين من أهلها.
لن يكون العالم بعد انحسار الوباء وذهاب الداء- وهو كائن بإذن الله- هو نفس العالم قبل هذا التمحيص العام الذي جعل الناس إزاءه سواسية على درجة واحدة من العجز وقلة الحيلة، بل إن البلاد الأكثر تقدما هي الأكثر تأثرا !
وملامح التغيير بدأت لما علم الناس أن الاستثمار الحقيقي في العلم، وليس في الفن، وفي قاعات البحث، لا صالات الرقص، وفي مدرجات الباحثين، لا مدرجات المتفرجين، وأن المستشفيات أولى من الثكنات والدبابات.
فهل ستنجح البشرية في الاختبار، وتأخذ من كورونا الدرس والاعتبار، وتعي ما قاله أبو العتاهية:
فَيا عَجَباً كَيفَ يُعصى الإِلَهُ؟
أَم كَيفَ يَجحَدُهُ الجاحِدُ؟
وللهِ فِي كلِّ تحرِيكَة ٍ
وتَسكينَة ٍ في الورى شاهِدُ
وفِي كلِّ شيءٍ لَهُ آيةٌ
تَدُلّ على أنّهُ الواحِدُ
أضف تعليقك