تأتي الأخبار من هنا ومن هناك حول فيروس كورونا الذي بدأ في ولاية ووهان الصينية بإصابات عديدة ثم انتشر في الدنيا، حتى أن نشرات الأخبار جميعا لم تعد تتناقل من أخبار أخرى لأحداث ظلت في المقدمة، فالأخبار احتكرها فيروس كورونا في مناطق مختلفة من العالم إن لم نقل في العالم بأسره، وبدا هذا الفيروس الصغير يكشف عوارا كبيرا وخطيرا في القيم والبنى والعلاقات المختلفة، ليس فقط على مستوى الدول ولكن على مستوى العالم بأجمعه، والنظرة التي تتعلق بالعلاقات الدولية ضمن أطماع استئثارية غلبت عليها الأنانية والمصلحية الضيقة؛ فأدت مع هذه الحالة المشوهة لتلك العلاقات إلى ضحايا لم يهتم بهم العالم، يسقطون على أيدي مستبدين طغاة عتاة لا يأبهون لشعوب ولا يرف لهم جفن فيقتلون ويعتقلون ولا يحرك أحد ساكنا.
هذه الحالة من الاستبداد سواء في العلاقات السياسية داخل الدول أو في العلاقات الدولية فضحت الكثير من المظاهر التي تشير إلى تشوه هذه العلاقات، وإلى انهيار منظومات القيم التي تحكمها.
وفي هذا المقام فإن واحدا من أساتذة العلوم السياسية قد كتب كتابا في "تحليل العلاقات الدولية"، وصدّره باقتراح مهم، وذلك بتعريف العلاقات الدولية تعريفا يعدل من فحواها ومبناها ومغزاها، وينبه إلى حقيقة هذه العلاقات والمقصد الأساسي الذي يمكن أن تستند إليه.
ويؤكد "كارل دويتش" أن "العلاقات الدولية هي فن الإبقاء على الجنس البشري". هذه العبارة قليلة الكلمات عظيمة الفائدة إنما شكلت انتقادا لتلك البنية الاستبدادية لهذه العلاقات السياسية والدولية وتشوهها، حينما جعلت من القوة عنوانا لها ومن الاستئثار عمادا أساسيا لحركتها، ومن الحروب والقتل أداة للتعبير عن تلك القوة الطاغية المتغطرسة والأنانية؛ مهما أسفرت عن ضحايا ومهما خلّفت من ظلم شديد، المهم هو تحقيق المنافع وبلوغ المصالح كما يحددها القويّ في نظرة دارونية تؤكد أن البقاء للأصلح؛ والأصلح هو الأقوى.
شكلت هذه البنية الاستبدادية المشوهة للعلاقات الدولية حالة تحافظ على المستبد في دولنا باعتباره تعبيرا عن القوة في الداخل، والتي تشكل حماية لمصالح الخارج. كل ذلك نشأ من جراء تصور معين للقوة وتصور مشوه للعلاقات، فأفرز رؤية استبدادية طغيانية في عالم اليوم، تقتل فيه الشعوب الضعيفة بلا نعي ولا مبالاة. إنها حالة اللامبالاة بالمعنى الإنساني في حضارة غالبة، ظلت تتحدث عن حقوق الإنسان أكثر من احترامها الحقيقي لها في كل مكان وبحق أي إنسان، فتولدت نظرات العنصرية وتصاعد اليمين؛ وبدا يبرر ظلمه، أكثر من ذلك، حالة من تعميم الرأسمالية المفترسة والليبرالية المتوحشة لتعبر عن حالة عولمية مفروضة تكره الناس على السير في ركابها من غير تعقيب أو اعتراض، إلا من فئات ضئيلة هنا أو هناك من بقايا يسار أو من هؤلاء الذين يحتفظون ببقايا قيم إنسانية، ينبهون إلى الوضع الخطر والأمر الجلل الذي يتعلق بمآلات هذه الأحوال من بنية العلاقات الاستبدادية دوليا وداخليا، وصار الطغاة في بلادنا في خدمة الغزاة في يكرسون عبر العالم الأمر الواقع الظالم مهما اتسم بعدل مفقود وعنصرية صاعدة وأحوال بائسة.
أتى كورونا ليكشف ويفضح ويكشف بعض المستور ومعظم المكبوت.. فيروس صغير وخطير لكنه لا يفرق ما بين ضعيف وقوي وما بين غني وفقير، يجتاح الدنيا ويُصاب عالمنا بالذعر.. لم يصل هؤلاء إلى عمق توجيه "كارل دويتش" ولا إلى دقة إرشاد "جارودي" حينما كتب في كتابه "حفارو القبور"؛ ليؤكد أن مسيرة الحضارة الغالبة على هذا النحو ليست إلا مسيرة قتل وموت. واختار هذا العنوان البليغ ليؤكد أن هذا سمة خطيرة لتلك للحضارة؛ ولم يقف عند هذا الحد فأفاد وأفاض حينما تحدث عن "سفينة الأرض" التي تجمع العالم والمعمورة بكل إنسانها وبتنوع صنوفها، وأن المصير المشترك الواحد في معنى السفينة إنما يشكل الحقيقة الكبرى التي يجب أن تكون في إدراك الناس لتحقق حالة استخلافية عمرانية في مواجهة حالة استعمارية تدميرية؛ لا تعرف إلا الحروب والاقتتال ولا تحسن إلا الاحتكار والاستئثار.
أتى كورونا لكل صاحب قوة متغطرس ولكل مستبد طاغية بأنه ليس في مأمن، وأنه على دقة حجمه الذي لا يُرى يستطيع أن يفتك به ويدخل إليه مهما أقام من حصون منيعة ومن أسوار عالية؛ ومهما أقام من عواصم إدارية لن يدخلها إلا من هو مأذون له، فكورونا كان له من التعقيب على هذا الأمر وذلك الشأن، فطال الجميع من غير تفرقة، وأكد أن الطاغية والمتغطرس يمكن أن يقع في قبضته.
إن كورونا ليس بعيدا عن السياسة وعن فهم معادلة السلطة، ذلك أن معادلة السلطة والقوة والمتغطرسة ل "كورونا" فيها رأي بليغ، وأن عولمة طاغية تريد أن تملي نفسها على الجميع وتُنمِط حياة البشر لا يمكنها أن تقف في وجه كورونا، فأغلقت الحدود وتوقف السفر، وبدت السياحة في الدنيا مهددة وحركة التجارة والبشر مقيدة، بما تعبر عن إملاء من فيروس صغير على ذلك العالم الممتد الكبير ليشكل أكبر حظر قامت به الدول على ذاتها ورغما عنها.
هذه الأمور التي امتدت ظلما ونشرت جورا، وهذه الظروف التي تتعلق بمعادلة القوة والغطرسة والاستبداد والطغيان جاء كورونا ليهون من قدر السلطة والسلطان، الدولة الطاغية والمستبد الداهية؛ فلا حواجز بينه وبين أن يصل إلى كل كبير حتى يعرف هؤلاء أنهم أضعف ما يكون مهما كانت قوتهم وحمايتهم، وأن حضارتهم الكبرى التي شُيدت أوهن من بيت عنكبوت، وأن تأسيس العمران لا يكون إلا على أساس العدل لكل إنسان وفي كل مكان.
ومن أحوال الاستبداد سنرى عجبا، فإن فيروس كورونا الذي دخل هذه البلاد بلا استئذان حاول هؤلاء المستبدون بكل طاقتهم وقوتهم أن يعتموا على الأمر. هكذا المستبد في حال الأزمة والكوارث، صناعته التعتيم؛ إلا أن كورونا قرر فضح هؤلاء المستبدين في أعداد الإصابات الكبيرة، ومن تصريحات متكررة من كل دول الدنيا تفضحه وتجبره على كشف المستور، حتى هذه الدول التي ساندت المستبد ودعمته كشفت عن فضيحته وكتمانه وتعتيمه. فها هو الكورونا يلقن المستبد درسا يؤكد له أن التعتيم والكذب لا يمكن أن يكون، وحباله لا يمكن أن تطول، وهنا بدأ المستبد يعترف بخيبته ويكشف عن أزمته وضعف حيلته وقوته.
بعد أن كشف كورونا عن غطرسة المستبد وفضح تعتيمه، حاول المستبد أن يستغل هذا الوضع وبدأ يسرف من فائض الكلام زورا وإفكا بأنه يحترم قيمة الإنسان وأن حياة المواطن هي أغلى ما لديه وصحته غاية اهتمامه، إلا أن إفكه وادعاءه لا يمكن أن يدوم، ففي حقيقة الأمر إن الخسارة لا يمكن تجنبها وأنها واقعة لا محالة، وأنه يريد أن يزايد على كورونا بعد أن كشف عن عدم شفافيته واستبداده، فواصل هجومه على ذلك الادعاء بالرأفة والرحمة بحال المواطن وقيمة وصحة الإنسان، يقول له كورونا فاضحا لنفاقه وادعائه أنه ينتقل من فرد إلى جمع كبير؛ فهل سيطلق مسجونيه الذين جمعهم ظلما في معتقلاته، أم أنه سوف يبقي عليهم في غياهب زنازينه، حتى لو قضوا جميعا؟
إن كورونا ما زال يتحدى ادعاءه الإنساني وافتراءه على القيمة، لأن ذلك المستبد، حينما طالب وزير النقل بعشر مليارات جنيه يصلح بها شأن القطارات لإنقاذ الناس من الكوارث والحادثات، رد عليه ساخرا وبشكل يشير إلى عدم تقديره لقيمة الإنسان؛ بأنه من الأفضل أن يودعهم في البنوك ليحصل على فوائدها. إن كورونا يفضحه ويوبخه: "منذ متى قدّر المستبد حياة الإنسان؟!".
أضف تعليقك