• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

رغم تحفظى العاطفى –فيما سبق- تجاه تركيا، بخلاف كثير من الإخوة والأصدقاء الذين يبالغون فى المدح ويتغاضون عن سلبيات النظام التركى ومواضع ضعفه- فإن ما جرى فى مدينة «سراقب» السورية يستحق الإشادة، وإبداء التقدير لهذا النظام وقواته العسكرية.

لقد أظهرت المواجهة التى انتهت فى وقت قياسى؛ نظامًا سياسًّيا قويًّا، قادرًا على الفعل، حكيمًا فى الوقت ذاته، لديه قدرات عسكرية -كما لديه قدرات دبلوماسية- قادرة على إعلاء قامة ومكانة المفاوض التركى. والأهم: القدرات العسكرية التى فاجأت الأطراف الأخرى؛ ففى ساعات تم تدمير عدد من أنظمة الدفاع الروسية الأحدث عالميًّا، وأرتال من آليات ومراكز الذخيرة السورية، وقتل ما يزيد على 3000 عنصر من ميليشيا العلويين، ومائة من حزب الله -بفضل الأسلحة المحلية المتطورة والتى استعملت -ميدانيًّا- لأول مرة، وعلى رأسها الطائرات المسيرة.

وبهذه الجولة العسكرية، أثبتت تركيا أنها «مارد عسكرى»، كما أثبتت منذ سنوات أنها «مارد اقتصادى»، و«ثقافى» -حتى باتت إن قالت يُسمع لها، وحتى صار المسئول التركى-فى أى محفل دولى- يسعى الآخرون إلى وصاله، وأثبت هذا النظام كذلك أنه يمتلك أوراق لعب مؤثرة، يستخدمها بلباقة، ويدرك متى يعلنها ومتى يحجبها كلاعب متمرس يحرز الأهداف على أكثر من جبهة، ويحسن الإمساك بخيوط اللعب؛ فيخاصم من يشاء ويصالح من يشاء بالكيفية والزمن اللذين يريدهما.
وهذه «القدرات» لم تأت من فراغ، بل بعد عقود من الجهد، وتنفيذ «إستراتيجيات» وُضعت منذ زمن، يقوم عليها ساسة وأكاديميون ورجال اقتصاد وطنيون، يعتزون بالهوية التركية، ويؤمنون بحق الأوطان فى العطاء، ولم يعولوا على الشرق أو الغرب، ولم يقبلوا أن يكونوا مطية -كما أسلافهم- لقوى عالمية، بل تخلصوا من عقدة الأتراك القديمة «إما الانضمام لأوربا أو الهلاك»، فضلاً عن إيمانهم بقيم وقواعد «الديمقراطية»، وحق الجميع فى المشاركة السياسية.

ومن يطالع الدراسة الشهيرة: «العمق الإستراتيجي: موقع تركيا ودورها فى الساحة الدولية» للأكاديمى الأبرز أحمد داود أوغلو، مستشار الحكومة التركية، ثم وزير خارجيتها فيما بعد -يتأكد أن حكام هذا البلد يسيرون حسب مخطط مدروس، فضلاً عن وعى تام بأهمية ومكانة بلدهم، وعن وطنية، واعتزاز وفخر بالتاريخ العثمانى.. توقع «أوغلوا» فى دراسته التى صدرت عام 2001 أحداثًا تجرى الآن، واستشرف أخرى ستقع بعد عقد أو عقود نرى أماراتها في الأفق، وتحدث عن مشروع قومى لا يقف عند حدود الوطن، يحقق حلم شعب وريث حضارة وزعامة بقيت لنحو 800 سنة، ورصد كيف ستنزع تركيا الوصاية الأممية عنها وعن محيطها الإسلامى وما يتقاطع مع مصالحها الدينية والسياسية والاقتصادية والثقافية.

وكما توقع «أوغلو» -منذ عشرين سنة- أن هناك من سيعيد صنع تركيا التى ستشهد نهضات سريعة ومتتالية -فإن الناظر الآن إلى المنطقة لا يتشكك فى واقع جديد، تبدلت فيه الأدوار، وتعددت فيه المخاطر، وصارت فيه تركيا هى الأقوى، وصار العرب -مجتمعين- هم «عرائس الماريونت» فى أيدى الغرب والشرق، معادين لتركيا.. لكن لماذا يحارب العرب الأتراك لحساب الغير؟ لأن عروشهم وجيوشهم غير شرعية، وهى أضعف من أن يكون لها فعل أو حتى رد فعل أمام التجاوزات الخارجية فى حق شعوبهم؛ فهم بحاجة إلى «متبوع» يتولى حماية هذه العروش والجيوش، ولهم عليه أن يتبعوا سننه، وينفذوا أمره، ويعادون من يعادى؛ ولا أحد أعدى للشرق أو الغرب من «بلد مسلم ناهض»؛ وتركيا هى هذا البلد الذى يمثل خطرًا على أوربا الملاصقة من الناحية الديموجرافية، فى ظل وجود جاليات تركية فى أوربا تدين بالولاء لبلدها، وارتفاع أعداد المواليد التركية مقابل انخفاض أوربى واضح في عدد السكان. وإن ظهور هذا «المارد» قد يقطع مصالحها مع دولنا، وهى مصالح تاريخية قد تصل مع بعضها إلى درجة خضوع القرار السياسى، كما لم تنس أوربا والروس التارات القديمة التى بينها وبين الدولة العثمانية.

و«متصهينة العرب» والوضع هكذا؛ يحاربون تركيا بالكفالة، ولو وضعوا أيديهم فى أيديها لَتَشَكَلَ ثالوثٌ إسلامى يقيد حركة الدنيا إلا أن تنفرج بإذنه. لكن ذهب «وكلاء الغرب» مذاهب النساء فى الخصومة؛ فتسلطوا على الأتراك بالحروب الإعلامية والإجراءات الدبلوماسية، وإعلان تركيا ومن يعاونها «دولاً معادية!»، وتحرشوا بها عسكريًّا فى أكثر من جبهة، ودعموا ميليشيات ودولًا لمواجهتها، وأخيرًا يقومون بتشويه الخلافة العثمانية كى يتشوه النظام الصاعد برمته، ويؤلبون المعارضة عليه، ولعل انقلاب 2016 يعد صورة فجة لهذا التدخل العربى المشئوم فى شئون الأتراك.

أضف تعليقك