ماذا يستوجب على المعارضة المصرية فعله، تجاه أزمة سد النهضة؟!
كنت أعتقد أن الدعوة للانحياز للموقف الرسمي في هذه القضية، مجرد دعوة من الأذرع الإعلامية للسلطة، أو من الحالمين الذين يقفون على الحياد. وقد دخلت في سجال مع زميل من هؤلاء، دعا للاصطفاف الوطني خلف النظام لتقوية مركزه وتدعيم موقفه. فال
معركة وطنية بامتياز، ويجب ألا تكون جزءاً من المكايدة السياسية للحاكم، لولا أنني استمعت لموقف مشابه ممن هم يقفون معنا في نفس الخندق، وينحازون مثلنا للثورة!
في تقديري أن هذه الرؤية تنطلق من فكرة قديمة، وهي أن الخلاف مع السلطة الحاكمة في الفروع، وليس في "الأصول الوطنية"، وأن الأنظمة، وبحسبانها سلطة وطنية، قد تكون مستبدة، أو فاسدة، لكنها هي المعبر عن قضايا الأمن القومي. ومن هنا، فعندما تكون هناك قضية بحجم سد النهضة، فإن الواجب الوطني يستدعي أن نقف مع السلطة الحاكمة على خط النار، ونصب جام غضبنا على "العدو"، ونتجاوز خلافاتنا الجانبية!
وهي ثقافة الاستبداد التي تم زرعها فينا، فتبناها المعارضون، خوفا وطمعاً، فلما طال عليهم الأمد بدوا كما لو كانوا يؤمنون بالفعل بذلك. ألم تر كيف أن اليسار المصري كان متهما في عهد السادات بالهجوم على مصر في الخارج، لأن كثيرين منه هربوا من بطشه، وأطلقوا إذاعات ونحو ذلك، ومن بقي منهم في مصر كان يهاجم النظام في مطبوعات تصدر خارج الحدود، وإذا بهم بعد ذلك يستعيرون خطاب السلطة، في الحديث عن أن معارضة النظام لا تجوز من الخارج، ثم يذهب بهم التبني إلى حد اعتبارهم أن المعارضة عبر منابر في الخارج هجوم على مصر. وهي حالة مرضية يتقمص فيها الضحية خطاب الجلاد!
وهذه الضحية تتدهور حالتها الصحية، إلى حد أن يتصور أن المعارضة مع الحاكم هي في أمور ثانوية، وهامشية، فإذا جاءت قضية مرتبطة بالأمن القومي، وجب علينا أن نصطف خلفه كأننا بنيان مرصوص. فنظام عبد الناصر الذي انتهك أعراض الرجال في سجونه ومعتقلاته، وجد من ينحاز إليه بعد النكسة، وسُطرت الخطابات من المعتقلين داخل الزنازين تطلب إطلاق سراحهم لمحاربة إسرائيل، على وعد بأن يعودوا مرة أخرى إلى زنازينهم عندما تضع الحرب أوزارها، وخرج أهل اليسار إلى الشوارع يطالبون الزعيم بألا يتنحى، باعتباره حاكماً وطنياً، يقف على ثغرة من ثغور الوطن، وأن تنحيه هو غاية ما يريده "العدو"، وكأن الأمن القومي المصري لا يتحقق إلا بانتهاك كرامة المصريين، وسجن المعارضين، وكأن عبد الناصر كان جاداً في مغامراته العسكرية! ولو فكروا لوقفوا على أن الانحياز الحقيقي للأمن القومي المصري كان يستوجب إسقاط عبد الناصر ومحاكمته!
عندما تحكم العواطف:
بيد أنها مواقف عاطفية ومرضية كلها، هي السبب في تصور البعض أن الموقف من عبد الفتاح السيسي هو في القضايا الهامشية، والفروع وليس في الأصول، ألا وأن قضية متعلقة بالأمن القومي اعترضت طريقنا، فلا بديل أمامنا سوى أن نقف خلفه صفا كأننا بنيان مرصوص. وهل يجد الطغاة في عالمنا العربي أكثر هزالاً من معارضيهم الذين يظنون في أنفسهم ظن السوء، ولا يزالون يضعونهم في منزلة المدافعين عن الأمن القومي لبلادهم؟!
من هنا يأتي الكلام عن ضرورة الاصطفاف وترك "المكايدة السياسية"، وهو تصور خاطئ من أذرع السيسي، يقود إليه سوء الظن وظن السوء، كما أنه تصور يفتقد للموضوعية من قبل المحايدين. أما من يهمنا أمرهم ويهمهم أمرنا فقد نجح الأولون في دفعهم لتصور أن المعارضة إنما يهمها "المكايدة"، وأن النظام هو المعبر عن الأمن القومي المصري، وإن اختلفنا حوله!
هذا كلام قد يكون مقبولا مع أنظمة سابقة، لكنه لا يصلح مع النظام الحالي، الذي لا تعد معارضتنا له دفاعا عن الديمقراطية وحرصا منا على التداول السلمي للسلطة، فهذا ترف الآن، كما أننا لسنا مدفوعين بقضايا هامشية مثل الفشل في إدارة الملف الاقتصادي أو حتى النزاع على الحكم. فقد كنت أتمنى ألا يفشل السيسي اقتصادياً، لأن فشله أجاع شعبنا، وصار يهدد الأمن القومي المصري بتراكم الديون، بشكل يمد من الخطر على الأجيال القادمة ويمثل تهديدا للأمن القومي يتعذر تداركه إذا سقط السيسي!
إن أزمتنا مع النظام الحالي تتجاوز فكرة الثورة والثورة المضادة، والديمقراطية والاستبداد، فهو نظام يمثل خطرا على الأمن القومي المصري وليس عنوانا له، وقد دفعه حرصه على الحصول على الشرعية التي ضن الشعب المصري بها عليه؛ إلى ارتكاب الكثير من الحماقات في هذا الملف، وإلى درجة التفريط في حصة مصر التاريخية من ماء النيل، وفي التراب الوطني حيث تيران وصنافير، وتمكين الامارات من مصر وأمنها القومي!
الموافقة على بناء السد:
ولست بحاجة للتذكير بأن موافقة السيسي على بناء سد النهضة كتابة وبدون قيد أو شرط كانت سبباً في ما نحن فيه الآن، ومع هذا يكون مطلوبا منا أن نقف معه في مواجهة العدو الأثيوبي!
حسنا، لا مانع لدي في ذلك، وسأتعامل الآن على أن التوقيع تم بحسن نية وسلامة طوية، وظن السيسي أنه يحرج القوم بما فعل، فإدارة الملف كله تتم بعيدا عن السياسة وفقه العلاقات الدولية، وآخرها طلبه من رئيس الوزراء الإثيوبي أن يقسم بالله بعدم الإضرار بمصالح مصر، أو بحصتها في مياه النيل!
لا بأس، فهو رجل لا يفهم في السياسة، ولا يدرك ما يستوجب عليه فعله في إدارة الملفات الكبرى. ثم إنه لا يلجأ لاستشارة أحد لاعتقاده أنه يفهم ما لا نفهم، ويعلم ما لا نعلم، فلنلتمس له الأعذار.
والحال كذلك، فلماذا لم يلجأ إلى إلغاء توقيعه على اتفاقية المبادئ، وهو ما نصحه به الناصحون من غير المعارضين لحكمه ولنظامه؟!
ويبقى السؤال: إذا سلمنا بأن كل هذه أخطاء غير مقصودة، ويجب علينا أن نصطف مع السيسي في هذه القضية المرتبطة بالأمن القومي المصري، فأين يقف هو لنقف خلفه.. هل يملك أحد أن يقول أين يقف؟!
الحقيقة أنه يبدد الوقت، كما تفعل إثيوبيا، حتى يصبح السد أمرا واقعا، ومن هنا فنحن في معارضتنا للسيسي لا تحركنا القضايا الهامشية، ولكن قضايا الوطن الكبرى، فلا نراه مؤهلاً للدفاع عن الأمن القومي المصري، فهو جزء من الخطر الواقع عليه.
وإيماننا بمصر وانحيازنا لها هو من يجعلنا نقف في صفوف المعارضة ضده، وليس لأن بيننا خلاف على الميراث!
فاعتبروا يا أولي الألباب!
أضف تعليقك