بقلم: د. فتحي أبو الورد
الدكتور عمارة واحد من الذين جمع الله في شخصيتهم صفات كبار علماء الأمة الذين وقفنا على تراجمهم، فقد جمع الله في شخصيته بين البساطة والتواضع والهيبة والوقار والإجلال في آن واحد، فلا تجد حائلا بينك وبينه في الحديث والنقاش والاستفسار دون ملل منه أو سآمة أو استنكاف، في ظل هيبة ووقار وجدية تفرض عليك أن تكون جادا ودقيقا ومحددا، هذه السمات التي تجسد الأدب الرفيع في حضرة الأكابر.
دلت آثاره المقروءة والمسموعة والمرئية على أنه عالم موسوعي، وشكلت منظومة فكرية متنوعة ضمت مزيجا من الفكر والفلسفة والعقيدة والأدب والتاريخ والفقه.
لم يكن يقبل غيبة أحد في مجلسه، أو تناول شخصه، وإذا عرض لانتقاد مسألة فإنما يصب حديثه حول الفكرة، دونما نيل من الشخص، لأن ما يعنيه هو البناء لا الهدم، وتقويم الفكرة، لا للانتصار للذات.
عُرِف الدكتور عمارة بأنه عابد في محراب الفكر، سائح في ملكوت الحقيقة، مقاتل في ميدان الواقع دفاعا عن الإسلام وقضاياه، فارس في ساحات المعرفة والإقدام الفكري، تأسرك غيرته على دينه، وتبهرك منافحته عن حياض الشريعة، ووقوفه سدا منيعا أمام هجمات المتغربين والمتمركسين والمتطاولين، حتى إذا ما ذكرت الشبهات حول الفكر الإسلامي كان فارسها، وكان أصدق ما وصف به أنه الحارس اليقظ والمرابط على ثغور الإسلام كما وصفه الشيخ القرضاوي.
كان الدكتور عمارة رجل الفكرة والمبدأ والموقف، مثَّل الفكرة الإسلامية الوسطية النيرة فحفظها من التشويه، وصانها من الانحراف والتمييع، ومثَّل المبدأ الراسخ الذي يناصر الحق والحقيقة فلم يبدل ولم يغير، ومثَّل الموقف الثابت تجاه الأحداث التي عاصرها فلم يتلون ولم يساوم. هذه الثلاثية مجتمعة – ثلاثية الفكرة والمبدأ والموقف – هي التي ميزت الفارس الذي ترجل عن غيره، وحفظت له مكانته في قلوب الغيورين، وفرضت احترامه عند الموافقين والمخالفين على السواء.
فرض الدكتور عمارة نفسه على كل محب لدينه بداية من مناظرته القوية في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1992 بعنوان : "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية" ، ولفت أنظار المنصفين إليه في العالمين العربي والإسلامي، ولمع نجمه في سماء الفكر، وبرز اسمه باعتباره واحدا من القلائل الذين يمتلكون ناصية الحجاج والمناظرة، تشدك سلامة منطقه، وتذعن لوضوح فكرته، وسهولة عبارته؛ بينما هو يحدثك في أعوص المشكلات الفكرية والمعضلات الثقافية.
ومنذ ذلك الحين وأنا أتابعه، وأتابع نشاطاته وحواراته ومقالاته وبعض كتبه، وقد كنت أتابع بشغف مقاله الأسبوعي بعنوان "هذا ديننا" بصحيفة الشعب المصرية، الذي خلف فيه الراحل الكريم الشيخ الغزالي، وواصل فيه امتداد عطائه حتى توقفت الصحيفة عن الصدور.
شاءت الأقدار أن تتوطد صلتي به - لقاءً وحديثًا ومهاتفةً وزيارةً وصحبةً - لم يقطعها في الدنيا إلا نبأ وفاته، وأدعو الله أن تكون موصولة في الآخرة في جنته؛ كانت بداية ذلك حين كان على رأس المشاركين في التدريس بمشروع علماء المستقبل الذي أقامه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي تشرفت بإدارته تحت إشراف أستاذنا الدكتور محمد سليم العوا الأمين العام حينها، والذي شارك في التدريس به ثلة من الكبار، وصفوة من رجالات العلم والفكر، أمثال: الدكتور محمد سليم العوا، والدكتور أحمد العسال، والدكتور عبد المجيد محمود، والدكتورة نادية مصطفى، والدكتور محمد كمال إمام، والدكتور إبراهيم البيومي غانم، وغيرهم. وكان أستاذنا الراحل يحدث الدارسين عن "القضايا الفكرية المعاصرة"، وكانت تُعقد المحاضرات بقاعة جمعية رابعة العدوية، وكان زمن المحاضرة ساعة ونصف، ساعة للمحاضرة ونصف ساعة للمناقشة، وما إن ينتهي وقت المحاضرة المحدد حتى تبدأ الأسئلة التي تنهال عليه كالسيل من جمهور الدارسين حتى تشكل كومة من الأوراق أمامه، ويبدأ في الإجابة عليها سؤالا تلو الآخر، في تدفق سيال، وإبهار علمي، واسترسال أخَّاذ، ومخزون فكري واسع، وحافظة قوية، وحضور بديهة، وإصابة لكبد الإجابة في وضوح ويسر وحسن بيان، وقوة دليل، ونصاعة حجة. ويظل الحال على هذا النحو الذي وصفت في متعة بالغة أخَّاذة، حتى يتجاوز الوقت الساعتين ونصف الساعة، والحضور يجلسون وكأنَّ على رؤوسهم الطير، والذين كان جلهم من المتخصصين في العلوم الإسلامية وغير المتخصصين من المتيمين بحب الشريعة وقضايا الفكر الإسلامي.
اعتدت بعد أن ينتهي - رحمه الله - من المحاضرة أن أنعم بصحبته في إيصاله إلى منزله، وكنت أغتنم هذا الوقت وأعد الأسئلة والاستفسارات التي تَعِنُّ لي لكي أستفيد من بركة صحبته اللطيفة الماتعة، وكلما كان الطريق مزدحما كان ذلك هدية من الأقدار؛ لتزداد مدة الاستفادة والمتعة والصحبة، وأذكر أنني ذات يوم - ونحن في طريق العودة إلى منزله - أخطأت أثناء قيادتي فأوقفني ضابط المرور، وتوقعت أن يسجل لي مخالفة، وما إن اقترب منا حتى رأى الدكتور عمارة، فابتسم وحياه، وأذن لنا بالسير.
حدثنا يوما في واحدة من تلك المحاضرات، أنه قد أصابه ألم شديد في فقرات الرقبة، ونصحه الأطباء بأن يحافظ على وضعه معتدلا دون أن يميل رقبته أو يخفضها ، ولكن أنَّى لمثله أن يرتاح وهو الذي لا يجد راحته إلا بين الكتب وقاعات الدرس والتعليم، وأنَّى لمثله ممن غدا البحث والكتابة والتأليف يجري منه مجرى الدم، وكالهواء تتنفسه رئتاه، أنى لمثله أن يستريح ويمتثل امتثالا تاما لنصائح الأطباء؟ لقد ابتكر طريقة تجمع بين إرشاد الطبيب والاستجابة للرغبة الجامحة بداخله في التأليف والقراءة، فكان يقرأ وهو ممسك بالكتاب بيديه مرفوعا أمام ناظريه، وذكرني صنيعه هذا بما ورد في ترجمة الإمام ابن رشد الحفيد الذي قيل عنه: إنه لم يترك المدارسة والكتابة والتأليف في حياته إلا ليلتين: ليلة أن مات أبوه، وليلة أن تزوج.
شكلت وفاة الدكتور عمارة ذهابا لعلم كثير، قال سعيد بن المسيب: شهدت جنازة زيد بن ثابت فلما دلّى في قبره قال ابن عباس: من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم فهكذا ذهاب العلم، والله لقد دفن اليوم علم كثير.
وقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري في كتاب العلم ، باب كيف يقبض العلم؟ من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".
وبعض عزائنا أن عصرنا كان أحظى من عصرهم، فقد ألف العلماء وسطروا صحائفهم، ونشرت المطابع والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل إنتاجهم، فحفظت آثارهم لتنتفع بها الأجيال، وإن كانت رؤوسهم وعقولهم تحوى أكثر مما كتبوه، وأكبر من ذلك أننا فقدنا مواقفهم وروحهم التي تغذي فينا الاعتزاز بالحق، والثبات على المبدأ.
ومن عظمة هذه الأمة التي أخرجها الله للناس أنها لا يخلو فيها عصر من قائم لله بالحجة، كما أخرج البزار في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين "
ونحن نشهد الله أن الدكتور عمارة واحد ممن أقامهم الله عَزَّ وَجَلَّ لدينه عدولًا من كل خَلَفٍ، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين، وممن تقوى بهم قلوب أهل الحق، وتنقمع بهم نفوس أهل الأهواء.
اللهم إنا أحببناه فيك؛ فلا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله.
أضف تعليقك