الأبشع من مشهد الجرّافة الصهيونية التي تقتل شابًا فلسطينيًا على حدود غزة، ثم تلتقطه معلقًا مثل طريدة، هي مشاهد الحفاوة الرسمية العربية بالقتلة الذين ينزلون ضيوفًا على العواصم العربية، وقتما وكيفما شاءوا.
ليس مطلوبًا من العدو ألا يكون عدوًا، بل الكارثة الحقيقية هي أن يكون الشقيق أقرب إلى العدو من شقيقه، أو بالحد الأدنى يكون في منتصف المسافة، بالضبط، بينهما، مرددًّا مزاعم مضحكة إنه يفعلها لاستئناس العدو فيكون أكثر رأفة مع الشقيق.
في السابق، كان التطبيع شرّا لابد منه بالنسبة لأنظمة عربية ظلت تبرّر سقوطها بأنها إنما تفعلها اضطرارا حماية لشعبها واستقلالها من غضب الجبابرة الذين يديرون الكوكب، وأنه محض تجرّع مؤقت للسم، كي لا يقع الفناء الفلسطيني. أما الآن فقد صار التطبيع وسيلة تربّح سياسي واقتصادي، واستثمارا في المضمون.
المثير للسخرية أن عواصم الحكم العربية تتنابز ، وتبتكر في فنون المعايرة والتجريس بالتطبيع في وضح النهار، ثم تتسلل على أطراف أصابعها لممارسته، والتنافس فيما بينها على من يطبع أكثر في جوف الليل، وهي حالةٌ مؤقتة، أظن أنها ستنتقل من السرية إلى العلنية قريبًا.
وكما قلت، قبل أكثر من عام مضى، مع هبوط طائرة رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني في مطار مسقط، مرورًا بأجواء السعودية والبحرين وقطر والإمارات، نكون بصدد زلزال عنيف، يحمل الكيان الصهيوني إلى العمق الخليجي .. وأسوأ ما في الأمر أن التهافت على التطبيع صار جزءًا من إدارة الصراعات العربية - العربية، مكايدة واستقواءً وحجزًا للأماكن المميزة في القطار الإسرائيلي الأميركي، وكأن تل أبيب صارت المخرج من الأزمات، تشدّ إليها الرحال، حين يستعر الصراع بين الأشقاء العرب.
والآن، يبدو أن العرب الرسميين قد اختلفوا وتعاركوا حول كل شيء، واتحدوا واتفقوا على تنفيذ ما تريده إسرائيل، وبالتالي بات على المواطن الفلسطيني المتشبث بأرضه وحقوقه أن يتحرّر من مجموعة من الأوهام المفروضة عليه، قبل أن يفكّر في تحرير أرضه.
أول هذه الأوهام وأخطرها الاستمرار في توصيف محمود عباس زعيمًا للفلسطينيين، وممثلًا حقيقيًا لآمال الشعب الفلسطيني وآلامه، ورمزًا لكفاحه من أجل قضيته، فمفردات خطاب أبو مازن تشي بأن الرجل لا ينظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية تحرّر وطني، وكفاحًا من أجل التخلص من الاستعمار، ذلك أنه لا يرى الاحتلال احتلالًا، وأقصى ما يطمح إليه هو تهذيب هذا الاحتلال، وجعله أكثر تسامحًا مع ضحاياه .. بل أنه أعلن صراحة، في وقت مبكر، أن مقاومة الاحتلال بالقوة المادية هو "كلام فاضي"، وفقًا لمقولته الشهيرة مع انطلاق مسيرات العودة قبل عامين "إن حماس بدأت تتبنّى المقاومة السلمية، وثبت لهم أن المقاومة السلمية الشعبية فعالة أكثر من الكلام الفاضي"، في إشارة إلى المقاومة المسلحة.
يدرك كل فلسطيني الآن أن كراهية عباس للمقاومة تفوق كراهية الاحتلال الصهيوني لها، كما أن يصل في التحريض ضدها والسخرية منها إلى أبعد مما تصل إليه إسرائيل ومجموعة الحكام العرب المتواطئين معها.
ثاني الأوهام التي على الفلسطيني التحرّر منها اعتقاده بأن ثمّة نظامًا عربيًا يمكن أن يكون منحازًا له في كفاحه المشروع، أو حتى يقف على الحياد بنزاهة، بينه وبين العدو، إذ لم يعد يخفى على أحد أن هذه الأنظمة ترى أن ارتباطًا وجوديًا يجمعها بإسرائيل، وأنها باتت تنظر إلى القضية الفلسطينية نظرة إسحاق رابين إلى غزة قبل عقود، حين كان يحلم بطلوع نهار تكون غزة فيه قد اختفت من الخريطة وابتلعها البحر.
على الشعب الفلسطيني أن يدرك الآن، أكثر من أي وقت مضى، سقوط وهم ما تسمى المظلة العربية لمشروعه نحو التحرّر، لأن عواصم عربية تتنافس على استضافة صهاينة، رسميين وغير رسميين، لن تكون مشغولة بأكثر من الحصول على دور المهدّئ المضمون الذي يوفر للاحتلال أوقاتًا ممتعة، بتحويل قضية الشعب الفلسطيني إلى قضية أوضاع اقتصادية سيئة، يمكن معالجتها بضخ بعض الملايين من الدولارات.
أضف تعليقك