بقلم د. محمد الصغير
من أهم سمات القيادة الرشيدة الناجحة اكتشاف المواهب الشابة وتأهيلها للقيادة وحمل الراية، بخلاف القيادة الفاشلة أو الزعامة الزائفة فإنها ترى في علامات النبوغ في الأجيال التالية خطرا على تصدرها واستمرارها، لذا تلجأ إلى سياسة القهر والإقصاء، وبذل الجهد للتهميش وعدم إتاحة الفرص، وعندها تسقط الراية وينضب المعين والواقع خير دليل. وإذا أردت أن تعرف مدى نجاح قيادة ما، أو زعامة بعينها فانظر إلى نتيجة غرسها وثمار تعهدها، وأصدق مثال على ذلك الثلة المباركة والصحب الكرام الذين تخرجوا في مدرسة محمد عليه الصلاة والسلام.
حيث رأينا كيف أسند رسول الله إمارة مكة بعد فتحها إلى عَتَّاب بن أُسيد أحد شباب قريش، وكان قد تجاوز العشرين بقليل، وقبل وفاته أَمَّرَ أسامة بن زيد على جيش فيه كبار الصحابة ووجوه الناس، وكان دون العشرين بقليل ليعطينا درسا في تمكين الشباب في وجود الشيوخ للاستفادة من تسديدهم وخبرتهم ومشورتهم.
ولو نظرت في القرآن الكريم لوجدت هذا واضحا جليا فقد بزغ نجم داود عليه السلام يوم أن كان شابا يقاتل في جيش طالوت، وتمكن من قتل رأس الأعداء: (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ).
وكذلك بدأ سليمان عليه السلام بالفصل والحكم في حياة والده داود، ولم تمنعه علاقة الأبوة، ولا مقام النبوة من مراجعة والده النبي الملك ومخالفة رأيه وقضائه: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ. فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ).
وهذه الواقعة تنسف الفكر المدخلي والاتجاه الجامي الذي يقوم على تقديس الحاكم وطاعة ولي الأمر على أية حال، ورفعه إلى منزلة من لا يسأل عما يفعل!
تلميذه الإمام ابن القيم
ولو نظرت في صفحات تاريخ سلفنا الصالح ستجد ابن شهاب الزهري تلميذه مالك بن أنس إمام دار أهل الهجرة، والشافعي صاحب المذهب تلميذ مالك، وأحمد إمام أهل السنة والجماعة تلميذ الشافعي، وإذا أردت أن تكتفي بأقصر عبارة في التعريف بشيخ الإسلام أحمد بن تيمية يمكنك أن تقول: تلميذه الإمام ابن القيم.
وظلت هذه سنة مضطردة حتى عهد قريب، ومن ذلك ما فعله الإمام حسن البنا من تقديم الشيخ محمد الغزالي وهو في مقتبل العمر والإشادة بموهبته مبكرا، حيث رأى فيه نبوغا وتفردا في سبك الكتابة وطلاقة الخطابة، جامعا بين الأدب والدعوة، وصدَّقت الأيام فراسة الأستاذ الإمام فكان الشيخ الغزالي أديب الدعوة وشيخ المتأدبين، وفي التوقيت نفسه اكتشف الأستاذ البنا أزهريا آخر رأى فيه مخايل النجابة، وامتلاك أدوات الفقه والبحث، فطلب إليه أن يكتب للناس كتابا في الفقه لا يخرج عن المذاهب الأربعة ولا يتقيد بها، وينهل من المعين الأول الذي نهلوا منه فيكتب فقه السنة، وليس فقه الأئمة !
فقال سيد سابق "الشيخ الشاب": ولكن هذا عمل لا يستطيعه فرد، ولا ينجزه إلا فئام من أهل الفقه والنظر، فقال له الأستاذ البنا ابدأ بمقالات عن فقه الطهارة ننشرها للناس ثم ننظر، فامتثل وجاءت الكتابة وفق ما أحب الأستاذ وأراد! فقال له أكتب في باقي أبواب الفقه على هذا النسق، وانسج على هذا المنوال.
وبعد فترة رجع الشيخ سيد سابق إلى أستاذه ومعه دفاتر جمع فيها المقالات التي تناول فيها أبواب الفقه، يقول أحد شهود الواقعة: ما رأيت الأستاذ البنا في يوم أعظم منه فرحا وسرورا من اليوم الذي رأى فيه كتابات سيد سابق التي طبعت تحت اسم "فقه السنة" الكتاب الذي وُضع له القبول في الأرض، وقلما يخلو منه بيت أو مكتبة، حتى شابه "رياض الصالحين".
زال العجب
هذا شأن القادة المصلحين، والعلماء الربانيين، لذا لما رأيت ثبات الشيخ سفر الحوالي على الحق، وحرصه على الصدع به في وجوه من يعتبرون الصمت معارضة، والانزواء تمردا، مع ما يعانيه من أمراض مقعدة، وأوجاع مزمنة، وسن متقدمة، قلت لابد أن هذا النموذج الفريد والبعث الجديد، حصيلة جهد جهيد، وتربية في أرفع درجاتها وأعلى مستوياتها، يا تُرى من أستاذه ومن يكون شيخه؟ فلما علمت أنه الأستاذ المربي محمد قطب زال العجب، وقلت الشيء من معدنه لا يستغرب.
أضف تعليقك