صبيحة الإعلان عن فضيحة "البرهان – نتنياهو" في عنتيبي، وصلت إلي رسالته، ذلك المتشائم، منذ اللحظة الأولى لاندلاع ثورة الشعب السوداني.
تلك الرسالة التي يمكن، من دون قراءتها كاملة، تلخيصها في عبارة واحدة "قلنا لكم من البداية". ولكن لا بأس من استعراض سريع لمحتواها. يقول الساخط على الثورة: "كانت واضحة من أول يوم، ولكن حضرتك وغيرك تجاهلتم الاستغاثات .. أنتم شاركتم في إضفاء شرعية على استبدال سلطة فاشلة (ومحاصرة 23 سنة) بأخرى خائنة .. وأضفيتم عليها أنها ربيع عربي، وهي 30 يونيو بنكهة مختلفة.. 30 يونيو برضه كان فيه ناس محترمين ومغيبين (مع الفارق) .. الله يسامحكم".
مثل هذه الرسالة تعيد طرح السؤال: هل نكفر بالثورة، لأن أوغادًا ومجرمين اختطفوها، وانحرفوا بها عن المسار الذي حلمت به الشعوب؟ وهل يعني إعطاب الثورة وإفشالها، أو حتى انهزامها، أن يعاد النظر في فكرة الثورة ذاتها من حيث جدارتها الإنسانية والأخلاقية، وكونها تحرّكًا شعبيًا حتميًا ومنطقيًا ضد ما تراه الجماهير إهدارًا لكرامتها وحقوقها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟ بصيغة أخرى: هل انحيازك للثورة وإيمانك بها حقًا للشعوب ينبع من نجاحها في إنجاز حلم التغيير إلى الأفضل، على نحو لا يبتعد كثيرًا عن منطق تشجيع الفريق المنتصر، حتى إذا تعرض لهزيمة صار الجمهور ضده؟
مناسبة طرح السؤال وغيره كثير من الأسئلة أن شهر فبراير/ شباط يمر بنا ودماء ثلاث ثورات عربية على الأقل مهدرة ومسفوكة، يجمع بينها أنها بلغت ذروة الأمل في العام 2011 ، وبعد تسع سنوات استقرّت في قاع الألم، إذ ظن أهل الثورة اليومية في 11 من فبراير 2011 بعد نجاحهم في خلع حسني مبارك أنهم حققوا العلامة الكاملة للنجاح، فلم تمض أسابيع، حتى اكتشفوا أن المعركة بدأت للتو مع الخصم الحقيقي.
في اليوم ذاته، انطلقت ثورة الشعب اليمني ضد الجنرال علي عبد الله صالح، ولم تتوقف حتى نجحت في إطاحته من السلطة، بعد نحو عام من الصمود والتمسك بحلم التغيير. وفي التوقيت ذاته تقريبًا، كانت الثورة الليبية على الاستبداد والقمع قد بدأت وأنجزت مهمتها في التخلص من معمّر القذافي، بعد أربعين عامًا في الحكم، تحولت خلالها ليبيا إلى سجن كثير.
بالنظر إلى ما كانت عليه مصر وليبيا واليمن، في مثل هذا الوقت منذ تسع سنوات، ومقارنته بما تعيشه الدول الثلاث الآن، فإن الكفّة تميل إلي السيئ الذي كان، قياسًا بالأسوأ على الإطلاق الذي يخيم على هذه الدول، غير أن هذا لا يعني حسابيًا مسؤولية الثورات عن الوصول إلى هذه المآلات الكارثية، والنتائج المخيبة للآمال والأحلام في الموجة الثانية من الثورات التي انطلقت في العام 2019، وبشكل خاص ثورة السودان التي أسقطت الجنرال عمر البشير، فتسلم الحكم جنرالاتٌ أقل حجمًا سلموا أنفسهم وبلادهم وثورتهم إلى العدو التاريخي والمباشر والمنطقي للشعوب العربية الثائرة، وتبادلوا الأحضان، وتشاركوا في موائد الطعام مع رئيس حكومة الكيان الصهيوني.
والحاصل أن ثورات الشعوب العربية كانت حروبًا نظيفة ومشروعة ضد التخلف والتبعية والطغيان والاحتلال، احتلال الأراضي واحتلال الإرادة السياسية، لكن الشعوب انهزمت، أمام الجيوش التي تتسوّل التطبيع مع العدو، كما انهزمت هي والجيوش، وبسببها، أمام العدو نفسه في سلسلة من الحروب العسكرية.
غير أن ذلك كله لا يعني أن نلعن الحروب، باعتبارها فعلًا مقاومًا أخلاقيًا ومشروعًا ولازمًا للشعوب التي يحتل عدوٌّ ما أراضيها، ويغتصب مقدساتها وثرواتها، كما لا يعني أن نصب الغضب على الجنود الذين يذهبون إلى القتال ممتلئين باليقين بأنهم في معركةٍ من أجل كرامة أوطانهم وشعوبهم، بينما هناك قادة عابثون لا يمارسون القيادة بقدر ما يحترفون القوادة لمصلحة العدو، كي يشتروا الرضا الدولي عن استمرارهم في السلطة.
وما جرى مع الجنود في الحروب لا يختلف عما جرى مع الجماهير في معارك الثورات، فكلاهما كان يناضل ويقاوم بصدق نبيل، من دون أن يدري أن هناك من بين الذين يقودون نضاله من يلهو ويتاجر ويبيع ويخون.
هي معركة لم تغلق بعد، وإذا كانوا يحاولون اغتيال يقينك، ويشعلون الحريق في ذاكرتك، لكي تعلن استسلامك، وتقرّ بأن" الثورات لا تفيد" فعليك أن تتذكّر أنهم كلما أمعنوا في وحشيتهم وسفالتهم، فهذا يعني أنهم يعرفون قوة الشعوب، إذا امتلأت إيمانًا بحقها في التغيير وتحركت.
ودعني أذكّرك بما كان في العاشر من فبراير/ شباط 2011، حين كنت واقفًا في ميدان ثورتك، غير متنازل عن مطلبك في رحيل الطاغية. وفي الوقت ذاته، كان الرئيس الأميركي، باراك أوباما، ووزير الدفاع الصهيوني، إيهودا باراك، يبحثان في سبل منع سقوط حسني مبارك الذي ظن أنهما منحاه قبلة الحياة، لكن صمودك وثباتك في معركة الثورة مكّن ميدان التحرير من الانتصار على مؤامرة في البيت الأبيض.
لا تعتذر عن ثورتك، ولا تظنها هينة أو عاجزة، فكل ما حولك ينطق بأن الأوغاد وعبيد الأوغاد يستخدمون أشرس أسلحتهم لإنهاء زمن الشعوب التي استيقظت في العام 2011، فاهتزت جدران الاحتلال والاستبداد، وحتمًا ستعاود الانتصار عليهم.
أضف تعليقك