بقلم.. الشيخ عبد الحليم سليمان
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.. سيدنا محمد وآله وسلم، تمر بنا في الثاني عشر من فبراير كل عام ذكرى استشهاد داعية الإسلام المرشد العام للإخوان المسلمين “حسن البنا”- رضوان الله عليه- ففي هذا التوقيت عام 1949م امتدت يد آثمة بإطلاق الرصاص على ذلك العَلَم الشامخ والقمة السامقة، وكان ذلك نتيجة تدبير وتآمر اشترك فيه الملك مع دوائر الاغتصاب العدواني والصهيونية العالمية؛ لتطفئ ذلك النورَ والشعلة التي أضاءت للمسلمين طريقهم في هذا العصر الهالك.
روح جديدة
فبعد أن طُوِيَ علم الخلافة الإسلامية بفعل دسائس الصهيونية العالمية على يد “كمال أتاتورك”، وبعد أن ظن المغتصب في الحملة الصليبية الخامسة أنه استطاع أن يبسط نفوذه وسلطانه على العالم الإسلامي كله، وبعد أن أعطى الإنجليز وعدًا لليهود بإقامة وطنٍ لهم على أرض فلسطين، وبعد أن ظن العالم كله أنَّ المشرق قد أعولت عليه نوادبه، وأنه قد شُيعت جنازته.
قام هذا الرجل في هذا الظرف يُوقظ النيام ويحركهم من ثباتهم فتسري في هذه الأمه روح جديدة، فيزيل الركام عن مفهوم الإسلام الحقيقي، قام في هذه الحقبة والتي ظنَّ المغتصبون والصليبيون أنهم قد أجهزوا فيها على الأمة الإسلامية، قام ليعيد فيها الدين غضًا طريًّا، قام فيها بجهدٍ ليس معه جند ولا عتاد، وأنما معه إيمان يحمله بين جنبيه وفهم عميق للإسلام الذي استقاه من كتاب الله وسنة رسوله، قام ذلك الداعية يدعو إلى الإسلام على بصيرةٍ، لا كما كان يشيع في ذلك الزمان من إسلامٍ غافلٍ وإيمانٍ نائمٍ، بل الإسلام الذي جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم- والذي رضيه الله عز وجل للعالمين ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا﴾ (المائدة: من الآية 3).
قام يدعو إلى الإسلام الذي لا يتجزأ، يدعو إليه كعقيدة وكعبادة وكتشريعٍ ومعاملاتٍ وكمنظم للعلاقات بين الأمم والشعوب، هذا الفهم المتكامل لدين الله كان يعتبر جديدًا بالنسبة لهذه الحقبة الزمنية التي كان منتشرًا فيها شبهات وبدع وخرافات وأضاليل وفهم قاصر للإسلام على أنه: صلاة وركعات تؤدى في المسجد ولا شيء دون ذلك، فقام- رضوان الله عليه- بدعوته، وكان الإمام مالوفًا يتجمع الناس حوله، وقد رزقه الله الفهم الواسع للإسلام والحجة البالغة والحركة الدائبة فما وهن ولا استكان ولا ضعف ولا تخاذل، وسرعان ما التفَّ حوله المخلصون والأحباب، فكان يُعطيهم من نفسه، ويؤلف بين قلوبهم على مائدة القرآن ويغرس فيهم الحب والعزة.
شعلة تضيء حبًا وإخاءً
كان يعطيهم المثل من نفسه؛ فالتف حوله الناس من كل الطوائف: المثقفون، العمال، الفلاحون، الحِرَفيون، أصحاب الأعمال الحره، ذوى المناصب، فألَّف بينهم وربط بين قلوبهم برباط الإسلام، ودعا إلى الله على بصيرة؛ فصارت جماعة الإخوان لها كيانها ومكانتها، استقطبت جميع الفئات الواعية في هذا الشعب، وما كان ذلك يسر الزعماء والمغتصبون والحاكمون، ولكنه ملأ قلوبهم بالحقد وألقى على أبصارهم غشاوةً، ومضى الإمام يؤلف بين أصحابه في حركة دائبة وعمل متواصل بالليل والنهار.. لا يكل ولا يمل فأشرب أبناءه روحَ الإخاء والحب بينهم، فكانوا جسدًا واحدًا فتجسدت بينهم تلك المقولة: “إن الإخوان لو عطس منهم واحد في الإسكندرية لشمته أخوه في أسوان”..!!
وما قصر جهاده على ناحية من نواحى الإسلام دون غيرها بل كان منظمًا وفاهمًا خط الدعوة ومسارها، ورسم لها المبادئ من جميع الجهات وفي جميع النواحي، فكانت دعوته- ومازالت- ملءَ السمع والبصر بفضل الله عز وجل وإخلاص مؤسسها، وسار الإمام ورفاقه من حوله يعدهم الإعداد الجيد للمعركة الفاصلة بين الإسلام وخصومه من المستعمرين والصهيونية والمتخاذلين الذين يبثون روح التخاذل والتراخي في هذه الأمة.
ما أشبه اليوم بالبارحة.!!
في مرة من المرات عرض أمام الإمام الآلاف من جوالة الإخوان- ونظام الجوالة نظام معمول به في الإخوان- وهو نظام يشبه إلى حدٍ كبير نظام الكشافة فأوقع هذا العرض الرعب في نفوس الحكام فأشاعوا أنَّ الإخوان يعدون العدة للانقضاض على الحكم وإحداث انقلاب وأعانهم على ذلك التصور الاستعمار والدوائر لصهيونية، فأخذوا يوغرون الصدور ويبثون الفتن، ويوقعون بين الإخوان ورجال الحكم، والحقيقة التي يعلمونها جيدًا أنَّ الإخوان هم أخلص الناس لهذه البلد وهم الدرع الواقي لها والحصن الحصين عندما تلم الخطوب وتتسارع الأحداث ومعها الفتن، وأنذرت بالشر وكشَّر المتآمرون عن أنيابهم، وبخاصة بعد أن ذهبت جحافل الإخوان إلى فلسطين تهب لنجدتها وتطهر الأماكن المقدسة من دنس اليهود وتلحق الهزيمة تلو الهزيمة بالصهاينة، وبعد أن دخلت الجيوش العربية إلى ساحة المعركة تفوح منهم رائحة الخيانة على جبهات القتال، ويبعد المجاهدون الحقيقيون عن ميدان القتال إلى السجون والمعتقلات وتُحل الجماعة ويُترك الإمام الشهيد وحيدًا لم يُعتقل مع إخوانه ورفاقه، ولكن كيف يعيش وقد انفصل عنه بعض كيانه حتى إنه ذهب وطلب أن يُعتقل مع إخوانه، ولكن المكيدة كانت مُدبَّرة ليُغتال؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنَّ موته يعني القضاء على هذه الدعوة وإطفاء النور الذي أضاءه والذي سار عليه السائرون.
وفي ليلة كما أجمعت قريش على قتل الرسول- صلى الله عليه وسلم- ليلة الهجرة أجمعوا أمرهم على قتل الإمام وعهد بالتنفيذ إلى حكمدار كان يعمل بمحافظة سوهاج هو ومجموعة من المخبرين السريين، ونفذت في أكبر شوارع القاهرة ازدحامًا (شارع رمسيس حاليًا)، فأُطلق النار على الإمام على سلم جمعية الشبان المسلمين، ولكن الإمام يتحامل على نفسه ويطلب الإسعاف ويُذهب به إلى مستشفى القصر العيني، وهناك تتم بقية فصول المؤامرة فيترك دون رعاية أو علاج، تنزف دماؤه حتى تصعد إلى بارئها، ويُذهب به بليلٍ إلى والده الشيخ الهرم الكبير، ويمنع الناس من الذهاب إليه، فيقوم والده بتغسيل ابنه وتكفينه وتخرج الجنازة تحملها النساء إلى مثواها الأخير.
دماء الشهيد تروي شجرة الإخوان على مر العصور
وظن أولئك أنهم بهذا الصنيع قد اقتلعوا الشجرة التي غرسها الإمام في هذه الأمة.. ولكن الله خيَّب أملهم، فإن النفوس التي أُشربت الإيمان يستحيل ان تتخلى عن إيمانها وأن القلوب التي تلاقت وتآخت على الإسلام يستحيل ان ترتد عن ايمانها، والجموع التي رباها الامام على مائدة القران ما تزال صامدة ويخرج الاخوان من سجون الظالمين، وكان الناس يظنون ان هذه الدعوة قد قضى عليها بالقضاء على داعيها المؤسس وتطيش السهام، فهى دعوة الله ﴿يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا ان يتم نوره﴾ هذا الإمام الذي ربى أتباعه وعلمهم دروس الايمان والفداء والتضحية قد اثمر غرسه وآتى أكله، فلم تمض سنوات حتى كان استشهاد الامام زاد على الطريق يتزود به الدعاة، فدماؤه تروي شجرة الإخوان، فالامام جاد بنفسه في سبيل دعوته وعقيدته فشمر اتباعه عن السواعد وأكملوا مسيرته بعد أن أودعوا عند الله وديعة غالية وطلبوا منه المغفرة.
تجديد البيعة
فى ذكرى استشهادك إمامنا نجدد البيعة لله باننا على الدرب سائرون وفي سبيل اعلاء كلمة الحق والدين مضحون ونردد ما ربيتنا عليه: الله غايتنا، الرسول زعيمنا، القران دستورنا، الموت في سبيل الله أسمى أمانينا، لااله الا اله الله…عليها نموت وعليها نحى وفي سبيلها نجاهد وعليها نلقى الله.
أضف تعليقك