بقلم.. ياسين أقطاي
أخيراً أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب تلك الخطة التي تسمى "صفقة القرن" بعد حديث طويل عنها خلال الفترة الماضية.
أعلنها أو أملاها على العالم والعرب وبجواره رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، وصفقة القرن في الحقيقة ما هي إلا نتاج لممارسات النفاق والظلم والغدر، ولسياسة الاحتلال، والمجازر والعنصرية، التي طالما ساقها النظام العالمي في القرن الماضي.
إن فحوى ومحتوى تلك الصفقة الملعونة يكشف حقيقة مهمة لنا، مفادها أن العالم الغربي الذي كان يبيعنا العلمانية، وصدّع رؤوسنا بها في لغته وخطاباته وفلسفته؛ ما هو إلا عالَم متدين بل ومتطرف وعنصري وفاشي.
صفقة القرن في حقيقتها هي إعلان صريح عن إفلاس كل ما ينادي به الغرب، من قيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتعددية الدينية، والعلمانية، والتسامح، إنها صورة تدعو للسير وراء كهانة سخيفة للغاية، عمرها 2500 عام من المدنية الغربية، وما يتفرع عنها من جنون ووهم، يحاول تصوير المسلم الذي ينطلق من دافع ديني على أنه الشخص الأكثر تعصبًا في العالم.
الكهانة تفرض نفسها
إن السبب الوحيد اليوم الذي يجعل الكهانة تحاول أن تفرض نفسها بنفسها، هى أن الولايات المتحدة هي القوة العظمى في هذا العالم، وهي التي حولت الحلم التبشيري-الصهيوني إلى كابوس يحدّق بالسلم العالمي.
إن رغبتهم في جعل القدس عاصمة لهم، ليس لأنهم يحبّون القدس هذا الحب الجم الذي يوهمون به الناس، حيث لا يمكن أن يعشق القدس أولئك الذين لا يفهمونها ولا يعرفونها، إن الولايات المتحدة وإسرائيل والإعلام الصليبي بأكمله هم في حقيقتهم بعيدون كلّ البعد عن إدراك معنى القدس.
إن القدس قبل كل شيء؛ هي ذلك المكان الذي يصير فيه دم الإنسان مقدّسًا ومكرمًا، فمحال أن يتم تقديس القدس من خلال سفك دماء الأبرياء، بل إنهم يحاول هدمها مرات تلو الأخرى، حتى باتت إنسانيتهم بأكملها تحت الأنقاض.
إن أولئك الذين يريدون أن يجعلوا من القدس عاصمة لهم، لا يمكن لهم على الإطلاق أن يكونوا قريبين من أي معنى من معاني القدس، وهم على وشك سفك دماء الملايين من الناس، وكسر سلام، ونظام، واستقرار العالم بأسره.
إن القدس ليست مكانًا للتغطية على الخطايا، بل هي مكان إدراك تلك الخطايا والتوبة عنها، إن ترمب وبجانبه نتنياهو وهما يقدمان على هذه الخطوة الوقحة المتعجرفة، يبحثان من خلالها عن طريق لغسيل خطاياهم والهروب من اتهامات الفساد التي تلاحقهم.
كما قلنا وسنبقى نقولها دائمًا؛ إن القدس مرآة عالمنا، في الواقع وعلى مر التاريخ، القدس هي انعكاس لواقع العالم والإنسانية على مر التاريخ، وإن الغطرسة والخيانة والاحتيال والظلم الذي تتم ممارسته في القدس، محض انعكاس لما يجري في هذا العالم.
مفتاح السلام
لقد قال الرئيس أردوغان خلال اجتماعه الذي عقده بعد إعلان ترمب عن صفقة القرن، إن "القدس هي مفتاح السلام العالمي"، لكن ذلك المفتاح له أيضًا تأثير في عرقلة السلام العالمي، حينما يتم استخدامه بطريقة سيئة وضارة، وبالطبع فإن العكس صحيح، حيث إننا نجد انعكاسًا للاضطراب الكائن في النظام العالمي، حتى حينما عرّج أردوغان خلال كلمته، على الوضع في إدلب وليبيا، أوضح بشكل ملفت أن ما يجري هو انعكاس للخيانة والاحتلال والاضطهاد الذي تتعرض له القدس.
ففي ليبيا، هناك انقلابي ومجرم حرب ومحتل اسمه حفتر، من ورائه قوى يعتمد على أسلحتها الفتاكة، يحاول معها الوصول إلى السلطة من خلال سحق الشرعية، والمدنيين والحياة المدنية، إن الذين يدعمونه تتماهى جميع أسبابهم وحججهم وصفاتهم تمامًا مع أسباب وحجج وصفات من يحتلون القدس، يظن أنه حينما يمتلك القوة، فإنه يمكن أن يرى عبر فرض الأمر الواقع، أن احتلاله الخسيس حق مشروع، ما يتم هناك في ليبيا من احتلال وجرائم، يتم دعمه وتمويله من زعماء عرب-مسلمين، تمامًا كما هو الحال في القدس، فمن يمكنه إذاً أن يتوقع صدور صوت عن العالم الإسلامي حول القدس؟ أصلًا إن أساس المشكلة أن تلك الجهات التي تمثل العالم الإسلامي هي جهات محتلة.
أليس منطق وشكل التعاون الروسي والايراني والنظام السوري في إدلب يتماهى تمامًا مع ما مرّ من المشاهد؟ هناك في إدلب يوميًّا يتم قتل العشرات من المدنيين والأطفال فضلًا عن قصف المدن والمشافي والأسواق، باسم الحرب ضد الإرهاب، كم عدد الإرهابيين الذين يموتون حقًّا يا ترى؟ أو بالأحرى من هم الإرهابيون الحقيقيون؟ إذن لدينا العديد من الأسئلة التي تكفي لتفسير كيف تفقد الإنسانية معناها من وراء التبرير باسم الإرهاب، تستطيع روسيا فعل أي شيء فقط لأنها عضو دائم بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ولأنها تمتلك ما يكفي من القوة، ولا تتصدى قوة لمنعها على أي حال، حتى القوى التي يمكن لها أن تمنع روسيا عن إجرامها، لا تتمتع بسيرة أفضل من روسيا، وجميعها من دون تفاوت تتقاطر من أيديها دماء الأبرياء.
أليس هذا أيضًا انعكاسًا مباشرًا للنظام القائم في القدس؟
ألا نرى خيانة أولئك الذين يحتلون مقام تمثيل الدول المسلمة، قبل أي شيء من حيث سفك دماء المسلمين هناك، وأراضي المسلمين التي تم احتلالها، وشرف المسلمين وناموسهم المهان؟
لذلك السبب، يعتبر حال القدس ملخصا مصغرا لأحوالنا، القدس مرآة العالم، يبدأ الخلاص في القدس أو يكتمل فيها.
لا يمكن تحرير القدس من خلال الإبقاء على القسوة والتضاد اللذين يحكمان العالم الإسلامي، فمن أجل تحرير القدس ينبغي وضع حد لهذا الظلم في عالمنا، لن يتغير شيء في القدس ما لم يتغير النظام القائم في العالم، ومالم تتحرر شعوب العرب والمسلمين من الديكتاتورية.
أضف تعليقك