كانت الشهادة أمنيته كما كان الجهاد حياته.. يقول أحد تلاميذه: "سألت الإمام يومًا وأنا في صحبته إلى المنزل، فقلت له: يقول "الشاذلي" في بعض أدعيته، وهو يسأل الله: "هب لنا الحكمة البالغة مع الحياة الطيبة والموتة المطهرة.."، فماذا يقصد بـ(الحياة الطيبة والموتة المطهرة)؟
قال: "الحياة الطيبة هي حياة الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والموتة الطاهرة هي الشهادة"، ثم قال لي: "انصرف، وادع الله أن يرزقنا الحياة الطيبة والموتة الطاهرة، فلا نموت كما تموت الخِرفان، أو كما شبَّه خالد بن الوليد- رضي الله عنه- موتته على فراشه بأنه يموت كما يموت البعير".
مجاهد يتمنَّى الشهادة
وفي أواخر حياة الإمام، وقبل استشهاده بنحو أسبوعين- والظروف يومئذٍ على أشُدِّها- قال قائل: يا أستاذ، الإشاعات عنك كثيرة وعما سيكون معك، قال الإمام: ماذا سيكون؟ أهو القتل؟! إننا نعرف أنه شهادة، وهي أمنيتنا، قال السائل: والدعوة؟! قال: لقد أديت مهمَّتي، وتركت رجالاً، ورأيت بعيني أنهم رجال، وسأموتُ الآن مطمئنًا، والذى أريده هو أن أموتَ شهيدًا.. وتحققت الأمنية وكانت الشهادة.
حديث الشهيد عن الشهادة
1- صناعة الموت:
في مقالٍ بعنوان (صناعة الموت) في مجلة (النذير).. العدد 12- في 2 من شعبان 1357هـ= 1938م جاء فيه:
"أَجَلُّ صناعةٍ الموتُ، فالموتُ صناعة من الصناعات، من الناس من يحسنُها فيعرف كيف يموت الموتة الكريمة، وكيف يختار لموتته الميدان الشريف والوقت المناسب، فيبيع القطرةَ من دمه بأغلى أثمانِها، ويربح بها ربحًا أعظم من كل ما يتصور الناس، فيربح سعادة الحياة وثواب الآخرة، ولم تنقص من عمره ذرة، ولم يفقِد من حياته يومًا واحدًا، ولم يستعجل بذلك أجَلاً قد حدَّده الله.
ومن الناس جبناء أذِلة، جهلوا سرَّ هذه الصناعة، وغفلوا عن مزاياها وفضائلها، فمات كل واحد منهم في اليوم الواحد ألفَ موتةٍ ذليلةٍ، وبقي وموتاتُه هذه حتى وافته الموتةُ الكبرى ذليلةً كذلك، لا كرمَ معها ولا نُبلَ فيها، في ميدان خاملٍ خسيسٍ ضارعٍ، وقضى ولا ثمنَ له، وأهدرَ دمه ولا كرامةَ.
2- صناعة الموت مرة أخرى:
وفي ختام رسالة (الجهاد) تحدث مرةً أخرى عن صناعة الموت فقال:
"أيها (الإخوان)، إن الأمة التي تحسن صناعة الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة يهب لها الله الحياةَ العزيزةَ في الدنيا والنعيمَ الخالدَ في الآخرة، وما الوهن الذي أذلَّنا إلا حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت، فأعِدوا أنفسكم لعمل عظيم، واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة، واعلموا أن الموت لابدَّ منه، وأنه لا يكون إلا مرةً واحدةً، فإن جعلتموها في سبيل الله كان ذلك ربحَ الدنيا وثوابَ الآخرة، وما يصيبكم إلا ما كتب الله لكم، وتدبَّروا جيدًا قول الله تبارك وتعالى: ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (آل عمران: 154).
فاعملوا للموتة الكريمة تظفَروا بالسعادة الكاملة، رزقنا الله وإياكم كرامة الاستشهاد في سبيله".
3- هُبِّي ريحَ الجَنَّة:
وفي مقال بعنوان (هبي ريح الجنة) في مجلة (الإخوان) 3/11/1945م، جاء فيه:
"إذا كان اليهود في فلسطين قد أعدُّوا عدتهم من ذخيرة وسلاح، وتجهَّزوا للعدوان الصارخ.. فإن هناك ملايين من المصريين ومن العرب ومن المسلمين يتضرعون إلى الله في سجودهم أن يرزقَهم الشهادة في سبيله، وألا يكون موتُهم هكذا حتفَ أنوفهم كما يموت البعير".
أضف تعليقك