بداية الوعي بالسودان هو ذلك اليوم من أيام الطفولة الذي علمت فيه أن شقيقي الأكبر سيسافر إلى الخرطوم لاستكمال دراسته في الكلية الحربية، أواخر العام 1969، ومن ثم العودة إلى الحرب ضد العدو الصهيوني الذي هزمنا واحتلّ أرضنا.
بوعي طفلٍ في عامه الخامس من العمر، تشكلت صورة السودان في الوجدان، ذلك المكان الذي يتعلّم فيه المحاربون، كيف ينتصرون على العدو ويحررون فلسطين، إذ كنت أستمتع بحكايات العائدين من الخرطوم عن جمال السودان وروعة الشعب السوداني.
بعد عقود، وفي تسعينيات القرن الماضي، وبعد أن صارت للعدو سفارة في القاهرة وصار التطبيع مفروضًا على الجميع بالإكراه، كنت أقرأ في مذكّرات الفريق محمد فوزي، وزير الحربية المصري بعد نكسة يونيو/ حزيران 1967، وتوقفت عند الإسهام السوداني الكبير في تحقيق الانتصار على العدو الصهيوني في أكتوبر/ تشرين 1973، حيث يروي ما يلي:
"أخذت التحرّكات تتلاحق في أعقاب قمة الخرطوم، مستهدفة ترجمة شعار قومية المعركة بصورة عملية على مدار السنوات الثلاث 1967 - 1970، وقد قمت بعدة زيارات لكل من الجزائر والسودان والمغرب والعراق، بهدف تقوية التضامن العسكري العربي، باشتراك قواتٍ من هذه الدول في خطوط المواجهة. وقد قدّمت الحزائر، على سبيل المثال، لواء مشاة كاملاً مع وحداته المعاونة، ثم جرى تدعيمه بعدد 2 كتيبة مدفعية عيار 155 مم، وقدمت السودان والكويت عددا من كتائب المشاة".
و"كان عام 1969 حافلا بالتغيرات الجوهرية في مسرح عمليات الصراع العربي – الإسرائيلي، حيث شهد قيام ثورتين في كل من السودان وليبيا (مايو/ أيار- سبتمبر/ أيلول 1969) أعلنتا، منذ يومهما الأول، تحالفهما الكامل مع مصر وسورية في صراعهما مع إسرائيل، وقدّمتا أراضيهما عمقا استراتيجيا للقوات المصرية، حيث تم نقل الكلية الحربية إلى جبل الأولياء جنوب الخرطوم، كما انتشرت قطع بحرية مصرية في القاعدة البحرية في طبرق، وفتحت مراكز تدريب للكلية الجوية في القواعد الليبية المختلفة".
هذه الدفعات من خريجي الكلية الحربية التي احتضنتها الخرطوم، ووفّرت لها الحماية والرعاية، هي التي صنعت انتصار العبور في حرب أكتوبر 1973.. وقبل ذلك، كانت القمة العربية التي انعقدت في الخرطوم بعد النكسة، والشهيرة بقمة اللاءات الثلاث "لا صلح .. لا اعتراف .. لا تفاوض" بمثابة الخطوة الأولى على طريق ردّ الكرامة المهدرة بقوة السلاح العربي.
كل ذلك الميراث السوداني الضارب بعراقته في عمق النضال العربي من أجل الحق الفلسطيني المسلوب باعه الجنرال عبد الفتاح البرهان، تمامًا كما فعل سميّه المصري الجنرال عبد الفتاح السيسي، للعدو الصهيوني، امتثالًا لأوامر حكّام أبو ظبي والسعودية، واحتفاظًا بموقعيهما على رأس سلطةٍ ولدت سفاحًا، ونمت وترعرعت في فراش التطبيع.
الآن، بعد سير البرهان على خطى السيسي، يمكن القول، من دون مبالغة، إن وادي النيل كله، بالإضافة إلى امتداده ناحية الغرب، ليبيا وتشاد، صار تحت الهيمنة الإسرائيلية الكاملة. إذ يمكن لبنيامين نتنياهو أن يقود سيارته من الجنوب، عند إثيوبيا، ويمرّ بالسودان، ومنه إلى تشاد، ثم ليبيا، وصولًا إلى مصر، ثم يمضي بعض الوقت متمتعًا بخدمةٍ فاخرة من عبد الفتاح السيسي، قبل أن ينطلق بحرًا إلى قبرص واليونان، متفقدًا حقول الغاز التي تنازلت عنها مصر السيسية.
تلك هي ملامح خريطة المستقبل العربي البائسة، بعد سقوط جنرالات السودان في حضيض التطبيع، بزعم المصلحة العليا والأمن القومي، لتكتمل عملية الحصار العربي الشامل للشعب الفلسطيني، بحيث لا يجد أمامه من سبيلٍ سوى الركوع أمام صفقة القرن، في ظل هذا الكفاح الرسمي العربي لمد جسور التعاون مع المحتل الصهيوني.
هكذا يتلفت الفلسطيني حوله، فيجد نظامًا عربيًا جديدًا، أقصى ما يمكن أن يقدّمه هو بيان منمّق، تكذّبه كل الوقائع والتحرّكات على الأرض، على نحو لا يجعلك تستغرب كثيرا إذا اندلعت انتفاضة فلسطينية في الأراضي المحتلة، ووجدت بعض الأنظمة العربية تتحالف، وترسل جيوشها لسحقها وتكسير عظام الشعب الفلسطيني، من أجل المصالح القومية العليا.
هذا يفرض على الفلسطيني أن يدرك أنه ليس له في هذه اللحظة حالكة السواد سوى شقيقه الفلسطيني، والسلاح والحجر، غير أن لرئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، رأي وموقف آخران، إذ يهرول للتنسيق مع رئيس حكومة العدو الصهيوني السابق، إيهود أولمرت، لعقد مؤتمر صحافي مشترك ضد صفقة القرن.
كنت أتصوّر أن يسعى عباس الذي لوح في مؤتمر وزراء الخارجية العرب في القاهرة بوقف تعاونه الأمني مع الاحتلال إلى مصافحة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، وعقد مؤتمر جماهيري في غزة، أو دعوة الفصائل الفلسطينية إلى اجتماع يبحث في بدائل وطنية للتصدي للنكبة الجديدة، لكن الرجل لا يخيّب ظن أحد فيه أبدًا.
أضف تعليقك