بقلم عامر شماخ
لم ينشط علمانيو مصر نشاطهم هذه الأيام، وليتهم نشطوا فى المطالبة بالحريات واسترداد حقوق المصرى المسلوبة، وقد كانوا أول المساهمين فى تضييعها بعد أن ركب العسكر أقفيتهم فى 30 يونيو -فإنهم أسفروا عن حقيقتهم وتفرغوا بكل ما ملكوا لحرب الإسلام.
وهم -أى العلمانيون- غنيمة باردة للعسكر، أو قل: هؤلاء قطب موجب وأولئك قطب سالب، لا يعمل أحدهما إلا فى وجود الآخر، أما العلمانيون فأطلقوا صبيانهم لنهش الإسلام، وأما الآخرون فمكَّنوهم من صحفهم وقنواتهم وولُّوهم مناصب الرأى ومراكز التعليم، وبعدما فرغ الطرفان من تغييب الإخوان توجهوا إلى تشويه الإسلام، والبداية طرح قضايا خلافية مثل: الحجاب والنقاب وتجديد الخطاب إلخ؛ للانقضاض فيما بعد على ثوابت وأركان الدين.
والعجيب أنهم يطعنون فى الإسلام دون غيره من الأديان، والأعجب أن لديهم الآن الجرأة على التصريح بآرائهم الصادمة دون خوف المساءلة؛ ما يؤكد أن وراءهم مَنْ باستطاعته أن يدوس على القانون؛ إذ صاروا يتقولون على النبى وأزواجه وصحابته، ويطالبون بالأخذ ببعض الكتاب وترك البعض، وتحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل، وهم -جميعًا- ليسوا ذوى صفة علمية، وليسوا ذوى إيمان ظاهر، بل لا نبالغ إذا قلنا إن أحدهم لا يحسن غسله ووضوءه ورغم ذلك يجادل فى مسائل العلم وأبواب الدين..وتأتى قضية «تجديد الخطاب الدينى» فى صدارة تلك
القضايا المطروحة هذه الأيام، ومقصدهم منها كما قلت: النفاذ إلى غيرها من المسائل الكبرى المتعلقة بالحدود والعبادات؛ فإذا كان بالإمكان -حسب ظنهم- التنازل فى القضايا الصغرى اليوم؛ فبالإمكان أيضًا التنازل فى الكبرى غدًا.
ولجهلهم بدين الإسلام فقد صاروا يهرفون بما لا يعرفون؛ فإن «تجديد الدين» فريضة على المسلمين، وضرورة لحضارته؛ فهو دين لا يعرف الجمود، ودعوة لا يحدها زمان ولا مكان، قد غلبت العادات والتقاليد الموروثة، ولاقت قبول العرب الأفظاظ منذ انطلاقها فدخلوا فيها أفواجًا، ثم انطلقت مسرعة لتصهر أممًا أخرى وحضارات شتى مع العرب فى بوتقة واحدة، وقد كان الخلاف الحضارى بين تلك الأمم كما بين السماء والأرض -وما حدث كل هذا، وما قامت حضارة الإسلام التى لم تطاولها حضارة أخرى فى التاريخ إلا لعصرية هذا الدين، وإشباعه للروح البشرية على اختلاف أجناسها وأمكنتها.
«إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» .. هذا حديث صحيح يؤكد أن «التجديد» ضرورة شرعية، وحاجة دعوية، وضمانة لحفظ هذا الدين من التبديل والتحريف كما وقع للأديان السابقة، وقد حصر بعض علمائنا –بالفعل- مجددى القرون المتعاقبة؛ الذين كان لهم الفضل فى إنهاض أبناء هذا الدين من كبواتهم، والتجديد فى وسائل نشر دعوته، وفى فهم نصوص الكتاب والسنة، وفى اكتشاف العلل التى خفيت على من قبلنا.
والتجديد متاح فى كل وقت وفى أى مكان- لكن بحقه؛ فلا يقوم بالمهمة إلا أهلها، الفاهمون، الحافظون، أولو العلم الذين يسيرون على خطى النبى -صلى الله عليه وسلم- فى هذا الأمر، وهم يعلمون شروط التجديد؛ ومنها ألا يطال الأمور التوقيفية أو القطعية التى لا خلاف فيها، وأن يكون بغرض التيسير على المسلمين وفتح الطريق أمامهم لتمتين الأخلاق وتأسيس الحضارة، ومد حبال التواصل مع «الآخر»، وإظهار محاسن الدين، وعفو الله ورحمته بالبشر، وتنقية الدين من الثقافات الدخيلة؛ فما خُيِّرَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وقد ورد عنه: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا»، «إن الإيمان ليخلق فى جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان فى قلوبكم».
إن الله -عز وجل- كما لا يرضى لعباده الكفر؛ فإنه لا يرضى لهم المشقة والعنت، والضعة والتخلف (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، وقد حثَّ المؤمنين على النشاط فى طلب العلم وما فيه من معرفة وحكمة وسباق نحو التقدم والرقى ومفارقة الجهل، قال تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة: 122]؛ فلا يكون التجديد بالسطو على الدين وتعطيل الفضيلة وإغراق الناس فى الجدل؛ فإن هذا يعطل التحضر ويكرِّس التخلف، وصدق الشاعر: «نرقع دنيانا بتمزيق ديننا.. فلا ديننا يعلو ولا ما نرقع)، ورحم الله عمر الذى غيّر لفظ «الجزية» لما امتنع قوم من النصارى عن تأديتها له وهى بهذا الاسم الذى رأوا فيه مسًّا بكرامتهم، ورحمه مرة أخرى لما لم يستثن «جبلة بن الأيهم» من القود، فى قصته المعروفة؛ ذلك أن (هذه نقرة وتلك نقرة أخرى).
أضف تعليقك