بقلم سليم عزوز
في وصف الأشباه، أو للدقة الشبيهان، يقال في المثل المصري: "فولة وانقسمت نصفين"، وفي موضوع هذا المقال، فإن محمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة، هو نصف حبة الفول هذه، أما النصف الثاني، فهو هو من اختاره للموقع الرفيع الذي يشغله، بالإرادة الحرة له، ليجلس على كرسي جلس عليه عمالقة الفكر في مصر. فلم تكن رئاسة جامعة القاهرة منصبا يباح لأمثال صاحبهم شغله، بما عُرف عنه من خفة، وبما اتسم به من استخفاف!
المذكور لم يكن من أهل الفكر قبل اختياره، ولم يكن من أهل الذكر في المنتديات الثقافية، وقد اتصل علمي به باطلاعي على كتيب خفيف أصدره بعنوان "كيف تكتب بحثاً". وإذ كنت قد اطلعت قبله على كتب عدة في هذا الجانب، فقد علمت مسوغات اختياره بعد ذلك رئيسا لجامعة القاهرة، هذا الصرح العلمي التاريخي، في عهد لا يحتفي إلا بكل القامات المنخفضة، ورأينا فيه كيف أن شخوصاً كنا نعتقد أنهم من أساطين الفكر والفلسفة، فلما جاء هذا العهد اكتشفنا جانبا لم نكن نراه فيهم، وهو جانب المسخرة، إذ كانت جدية العصور السابقة، ولو في الحد الأدنى، ستراً وغطاء عليهم.. انظر إلى خزعبلات شخص ظل حياته كلها يُعامل على أنه فيلسوف، فإذا به يثبت أنه مهرطق كان ينتظر الفرصة. أقصد بذلك الدكتور مراد وهبة صاحب مقولة السيسي ظاهرة كوكبية، وقد أنقذ كوكب الأرض!
خطأ الاختيار واختيار الخطأ:
لأن هناك من يعرفون محمد عثمان الخشت، فقد اعترضوا على اختياره لمنصب بحجم رئيس جامعة القاهرة، وقد كان أداؤه بعد ذلك كاشفاً عن خطأ الاختيار واختيار الخطأ
ولأن هناك من يعرفون محمد عثمان الخشت، فقد اعترضوا على اختياره لمنصب بحجم رئيس جامعة القاهرة، وقد كان أداؤه بعد ذلك كاشفاً عن خطأ الاختيار واختيار الخطأ. وقد شهد الرأي العام الرجل وهو يعتلي مكانا مرتفعاً، وفي لفيف من الطلاب والأساتذة، وهو يحشدهم "بطريقة بلدي" ليذهبوا إلى لجان الاستفتاء ليقولوا نعم للتعديلات الدستورية، ويقدم عرضاً للطلاب بالنجاح في مواد الرسوب لمن يستجيب له، في تصرف غير مسبوق، وبأداء وثيق الصلة بطقوس الأفراح الشعبية، ففي كل منطقة تجد هذا الرجل الذي يجمع "النقوط"، ويطلب ممن يقوم على إحياء هذه الأفراح من المطربين ما يسمى بـ"التماسي"، حيث أهل العريس، وأهل العروسة، والناس الحلوة، الذين "يمسون على المعازيم"!
وكان لافتاً أن يتقدم الرجل خطوة بهذه الخفة، ليغني ما يطلب المستمعون من الأغاني العربية (برنامج راديو لندن الشهير)، في مؤتمر تجديد الخطاب الديني، وبخطاب ارتجالي ركيك، كاشف عن قراءة متعجلة للعناوين، عن الشيخ شلتوت، إمام أهل الاجتهاد في العصر الحديث، ليستمد شرعيته من هناك، فاته أن كل هذه الدعاية الخاصة بالشيخ كانت لرعايته فكرة التقريب بين المذاهب، وللدقة المذهبين السني والشيعي، وفتواه الشهيرة بجواز التعبد على المذهب الشيعي الإثني عشري، فهل هذا ما يقصده؟ وهل يتحمل ولي أمره الدعاية لما ذهب إليه الشيخ شلتوت؟!
إن ما يهدف إليه الخشت، ليس هو ما ذهب اليه شيخ الأزهر الراحل الشيخ محمود شلتوت، فهو يريد أن يعزف على نغمة عبد الفتاح السيسي، الذي تكمن مشكلته في أنه يظن أنه صاحب اجتهاد في شؤون الدين، وأنه مخول بالاجتهاد ويملك أدواته، دون أن يقدم رؤية متكاملة عما يقصده بتجديد الخطاب الديني، تماماً كما الخشت الذي جاء في مؤتمر كبير، بدون إعداد جيد، أو جاهزية تليق، فلما تصدى له فضيلة الإمام شيخ الجامع الأزهر، أظهر خفته للعالم، وبدا كرماد اشتد به الريح في يوم عاصف!
أم الكوارث:
إنه يتحدث عن تجديد التراث، وعن تجديد الخطاب الديني، وهي دعوة قد لا تكون فيها مشكلة ولا غبار عليها، وتصلح موضوعا للنقاش بين أهل العلم، لكن اللافت أنها دعوة تتماهى مع ما يريده السيسي بدون تحديد، وكأن أزمتنا هي في الخطاب الديني، وكأن أم الكوارث لم تكن في الخطاب السياسي السبب الرئيس في انحطاط الأمة، فيتم تكريس الجهل، ويجري الاحتفاء بالقامات المنخفضة، وتكون الرؤى غير مفهومة وتفتقد للوضوح.
إن أزمة هذه الأمة هي في الاستبداد، فهل يطلب بتجديد الخطاب الديني أن ينفض عنه غبار الفقه الذي زين للحاكم على مر التاريخ سوء عمله ليراه حسناً؟ أم المطلوب هو تقديم خطاب ينال من ثوابت الدين، ليمكن به الحاكم المستبد من الحصول على شرعية من أعداء الأمة؟ لقد احتفى الاعلام الإسرائيلي بدعوة السيسي لتجديد الخطاب الديني!
الخشت يعبر عن السيسي ويتبنى دعوته، ولهذا أنحاز لشيخ الأزهر الذي يرفض التفريط، والذي يقف حجر عثرة في مواجهة هذا الحاكم المتسلط
لقد كان الرأي العام يعرف تماماً أن الخشت يعبر عن السيسي ويتبنى دعوته، ولهذا أنحاز لشيخ الأزهر الذي يرفض التفريط، والذي يقف حجر عثرة في مواجهة هذا الحاكم المتسلط، الذي يريد أن يطوع الأزهر، فيتبني هذه الهرطقة غير المكتملة التي يذيعها في مؤتمراته!
وقد بدا الأمر جلياً، عندما احتشدت الأبواق الإعلامية للسيسي تنال من شيخ الأزهر. وبالسوابق التاريخية، فإن للشيخ حصانة أدبية تحول دون تجريحه أو إهانته، لكن إعلام السيسي أهانه، ونحن نعلم من يدير هذا الإعلام ويوجهه، وصار الأمر كله بذلك على عينك يا تاجر!
الناس مع الإمام الأكبر، لأنه يحول دون تطويع الأزهر لهذا المنتحل لصفة الأنبياء الذين يوحى إليهم، وهم ضد الخشت لأنه تعبير عن هذا المنتحل للصفة، والأبواق الإعلامية على العكس من هذا تماماً.
وقد رأينا كيف يجري الترويج للخشت على أنه مفكر الأمة، وكيف أن هناك من أعدوا دراسة عن دوره التجديدي والتنويري، ليتم الترويج لها في معرض الكتاب بطريقة شعبية، ولم يبق إلا أن تكون اللافتة مصحوبة بالإنارة المتحركة، كما يحدث للدعاية للملاهي الليلية!
ولم يخطئ الرأي العام عندما تعامل مع الخشت على أنه كليم السيسي، ولسوف يعين عاجلاً أو آجلا وزيراً للثقافة، وكل هذا الاحتشاد الإعلامي هو مقدمة لهذا، لأنه والسيسي "فولة وانقسمت نصين"!
إنه زمن الخفة!
أضف تعليقك