ستون أو سبعون ألف معتقل -بينهم شيوخٌ طاعنون ونسوة عجائز وفتيات صغيرات- يقبعون الآن فى سجون العسكر، بتهم زائفة، يعانون غشم السجَّان وزمهرير الشتاء، قد مضى على أغلبهم ست أو سبع سنوات خلف القضبان.
يعيش هؤلاء المخلصون فى بؤس شديد؛ فى حين يعيش سجَّانوهم المنقلبون الغاصبون فى القصور الفخيمة والفنادق العظيمة، يرفلون فى الدفء والنعيم، على حساب الوطن، بفاتورة باهظة يتحملها الشعب الذى ينهشه الفقر ويصارعه المرض.
لقد استشهد أخٌ صحفٌى، منذ أيام، داخل أحد هذه السجون الفاتكة، وأكد ذووه أنه مات بسبب البرد والإهمال، وهو فى ريعان الشباب؛ حيث تُرك بلا علاج وغطاء، فتدهورت صحته حتى لقى ربه -رحمه الله.
وهذه الإجرام الذى تسبب في قتل الرجل يتعرض له باقى المعتقلين، خصوصًا فى سجن «العقرب» الذى قيل إنه يتبع «رئاسة الجمهورية» أو «المخابرات الحربية»؛ إذ ينزعون الأغطية من المعتلقين، ويجردونهم من أى وسيلة تخفف عنهم زمهرير الزنازين؛ فضلاً عن الإهمال العمدى فى إسعاف المرضى من الزَمْنَى والشيوخ، والتكدير والتغريب لمن يبدى أى تأفف أو اعتراض..
ولم يكتفوا بتعذيب المعتقل والتنكيل بذوى الأعذار منهم، بل صبَّوا حقدهم على الأهالى؛ فصارت الزيارات جريمة، وغالبها يقوم بها النساء، وصار الزائر أو الزائرة مساغًا للانتقام من المعتقل وزيادة همومه وأوجاعه، حتى امتنع كثيرون عن الزيارة بأوامر المعتقل لذويه، بعدما سمعوا عن جرأة وتطاول من عناصر السلطة على كريمات فضليات كان يُخشى عليهن من ضوء النهار.
مئات المعتقلين، منذ وقوع الانقلاب، خرجوا جثثًا من السجون، وكما حدث مع آلاف الشهداء، فى رابعة وأخواتها، لم يتم التحقيق فى أسباب وفاة حالة واحدة منها، ولا زال الأهالى يستلمون جثامين أبنائهم ومعها شهادات وفاة مزورة كتبها أطباء مجرمون يدّعون أسبابًا لا تقل «سخافة» عما ورد فى شهادات شهداء رابعة التى كُتب فى خانة سبب الوفاة: «منتحر».
لقد تأكَّد أنهم يستخدمون السجون لقتل هؤلاء الكرام، وبطرق عديدة؛ منها حرّ الصيف وزمهرير الشتاء، والإهمال الطبى، والقهر النفسى.. بتسليط «الأوباش» على هؤلاء الأسياد، يسبونهم ويؤذونهم، وبمنع التغذية السليمة؛ بالتدخل فى كمية الطعام ونوعيته وما يحويه من معادن ضرورية، وفى كمية الماء والسوائل، وبمنع النظافة العامة، ومنع الحمامات كوسيلة للتعذيب، حتى قيل إن كثيرًا من الشباب قضوا بفعل مواد وضعت لهم فى الأطعمة سلبت أرواحهم على المدى الطويل.
والواقع أنه رغم فداحة الجرائم التى يرتكبها هذا النظام؛ فإن جريمة الاعتقال، وعلى هذه الصورة التى نراها الآن، تبقى هى الأفظع والأفدح؛ إذ هى جرحٌ لن يندمل، وتخريب لبلد بكامله، ولا يظن ظانٌ أنها تختص بمجموعة دون سائر المواطنين، بل آثارها التدميرية ستعود -حتمًا- على الجميع إن لم يتداركوها ويجدوا لها حلاً. وإذا كان الرشاد والعقل قد امتنعا عن هؤلاء فلا نجد من نخاطب باسم الوطن، بل باسم الإنسانية والرجولة -فإنا ندعو كل من لديه بقية من دين أو وطنية أو نخوة أن يلتفت إلى هذه القضية، التفات مواطن لوطنه، وإنسان لبنى جنسه، ومسلم لإخوانه لفك هذا «النحس» وطى هذه الصفحة السوداء من دفتر الوطن الذى لن ينهض إلا بتحرير هؤلاء الشرفاء.
ونقول للذين غلبت عليهم شقوتهم؛ لعلهم يفيقون ساعة فيسمعون نصيحتنا؛ ها هو الزمن يمر والأيام تترى، وقد مضى عليكم فى الحكم سبع سنوات.. فماذا فعلتم؟ لا نرى سوى الفشل والضياع والخيبات المتتالية، وقد ظننتم أن سجن الأطهار وامتهان كرامتهم يهيئ لكم مرقد البيض والفقس، وهذا ظن السوء الذى ظننتم، فإنه لو فلح أسلافكم من الفراعنة لفلحتم؛ لأنه من غالب الله يُغلب، ولو أنكم اعترفتم بجنايتكم ورددتم المظالم إلى أهلها لحزتم السبق والشرف؛ أما لو دمتم على ما أنتم عليه من الجبروت والخسّة فلا تنتظروا إلا الهلاك، فهو آت آت، وكل ما هو آت قريب.
أضف تعليقك