بقلم.. د.عطية عدلان
الحقيقة ليست خافية ولا غائبة، ولكنها وسط سحائب الأكاذيب والأباطيل غائمة، فليس خافيا على أحد من خلق الله أنّ حفتر يقود منذ ظهوره على ساحة الصراع في ليبيا ثورة مضادة لثورة الشعب الليبي، وأنّه يجمع حوله الموتورين من أتباع النظام البائد، والمأجورين المحمولين على أموال ابن سلمان وابن زايد، وليس غائبا عن عاقل أو فاهم يدعي أنّه يفرق بعقله بين الصديق والعدو ويميز بفهمه بين الصادق والكاذب. أنّ النظام الدوليّ الذي اعترف بحكومة الوفاق الوطني يغض الطرف عمّا يجري في ليبيا، ويقف (على الحياد!) ينتظر اللحظة التي ينتهي فيها الفريقان إلى حافة الإفلاس، وينتهي البلد كلها إلى الضياع والإبلاس؛ لينقض النمور يتقاسمون الفريسة ويرتشفون غاز ليبيا وبتروله؛ باسم أي شيء مما يختلقونه.
وبموجب هذه الحقيقة الظاهرة المتواترة، وبموجب الشرعية التي تتمتع بها حكومة الوفاق الوطنيّ والتي أقرتها جامعة الدول العربية واعترفت بها الأمم المتحدة؛ كان من اللائق بحكومات الدول العربية أن تتحرك بجدية لحسم الصراع الدائر بين أصحاب الشرعية وبين أولئك الذين يثيرون الفتن في طول البلاد وعرضها، وأن تصطف كلها تحت مظلة جامعتها مع الشرعية ضد الانقلاب، وأن تتخذ من الاعتراف الدولي تُكَأَةً للتدخل العاقل العادل، لكنها لم تفعل ولا ينتظر منها أن تفعل؛ لأنّها في الأصل حكومات تنتمي لمدرسة حفتر وأمثاله من المجرمين الانقلابيين.
طلب النجدة:
فلما استنجدت حكومة الوفاق بتركيا واستجابت تركيا لها قامت قيامة الحكومات العربية، وقام معها بالطبع الإعلام العربي يمارس قلب الحقائق؛ فإذا بجامعة الدول العربية تثور وتخور، وإذا بالأنظمة يتقدمها النظام الانقلابي في مصر تضطرم وتمور، وإذا بالوضع يُكَيَّف على أنّه تَدَخُّل أجنبيّ في الشأن العربيّ، وإذا بأردوغان يتحول في حسّ الدهماء في مصر وتونس والجزائر وغيرها من البلدان إلى سلطان عثمانيّ يريد استعادة (الاحتلال العثماني!) للوطن العربيّ البائس المظلوم!!
وبمنطق الشاعر القائل: "أَحَرامٌ على بلابله الدوح ... حلال للطير من كل جنس؟!" نواجههم بتناقضاتهم الفجّة: ألم توافقوا جميعا على استعانة بعضكم بأمريكا والغرب ضد عدوان صدام على بعض بلاد العرب؟ ألم تنطلق البيانات الحكومية والتصريحات السياسية تتلوها الفتاوى الدينية الرسمية وغير الرسمية لتبارك كلها المستعين والمستعان به؟ إنّ صدام كان معتديا بكل المقاييس، وكذلك حفتر معتد بكل المقاييس، ولا فرق بين أن يجري هذا داخل حدود الدولة الواحدة أو بين دولتين؛ فالجميع يُسَلّم بأنّ العرب أمة واحدة لا تفرقها الحدود السياسية المصنوعة على مائدة سايكس بيكو، وكان من الواجب عليكم أن تتدخلوا في الأولى ضد صدام وفي الثانية ضد حفتر، ولكنكم في الأولى لم تحركوا ساكنا واكتفيتم بالتصفيق لأمريكا وهي تدمر العراق وتقتل الشعب العراقي باسم الدفاع عن العرب، أمّا الآن وقد استعان الليبيون بمسلم تجتمعون وتنفضون ثم تطلقون العنان لإعلامكم ليمارس الدجل المعهود!!
تبادل المصالح:
وهب أنّ أردوغان يبغي بهذا مصلحته ومصلحة بلاده، ويطمع في أن يكون لدولته بُعد استراتيجي وامتداد جيوسياسي وجيو استراتيجي، فما العيب في هذا؟! أليست السياسة (العادلة المحترمة) مبنية على تبادل المصالح والمنافع وإقامة التحالفات التي تحفظ التوازن على هذا الكوكب الذي يموج بالصراعات؟ أليس هذا مشروعاً في طبيعة العلاقات السياسية وفي منطق الاجتماع العمراني وفي فطرة الخلق وقبل ذلك في دين الله؟ ما العيب في هذا إذا لم يكن قائما على الظلم والعدوان؟ أليس من الواجب على الأنظمة العربية - إذ رأت تركيا المسلمة صاعدة واعدة - أن تتحالف معها ومع أمثالها من البلاد المسلمة الصاعدة كماليزيا؛ لتخرج من التبعية التي قتلت أحلام شعوبها وخلفتها كما بشريا لا قيمة له؟! أو على الأقل لتناور بهذه التحالفات القوى التي تتحكم في مصائرها وفي عروشها كذلك؟!
على هؤلاء الذين يثيرون الفتن أن يتذكروا أنّ حكومة الوفاق الوطني هي الحكومة الشرعية التي تمثل الشعب الليبي، وأنها هي المعترف بها عربيا ودوليا، وأنّ استعانتها بأي دولة مسلمة على الباغي حق يكفله الشرع ويكفله كذلك القانون الدوليّ، وأنّ استجابة تركيا لهذه الاستعانة واجب شرعي وحق مكفول بالقانون الدولي، وأن تخليها عن هذا الواجب نذالة لا تتقنها إلا الأنظمة العميلة التي لم تحظ باستقلال يوما واحدا من أيامها التي طال ليلها على شعوبها المنكوبة، وأنّ حفتر ومن معه يستقوون بمرتزقة يتسللون تحت عين الشرق والغرب ومن وراء ظهر الشرعية الدولية، وأنّ هذا لم يعد خافياً على أحد، وأنّ استمرار وضع كهذا يعني الانتهاء بليبيا وشعبها إلى التقسيم والتشتيت.
الفتاوى الطازجة
وعليهم أن يتذكروا كذلك - وأن يذكر أرباب الفتوى الذين سيسارعون إلى إرضائهم بالفتاوى الطازجة - أنّ استعانة أهل العدل على أهل البغي بمسلمين جائزة باتفاق، وأنّ قيام المسلمين بواجبهم لدفع البغي واجب بنص القرآن، قال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات 9) مع ملاحظة أن الاستدلال بالآية هنا يكون باعتبار أنّ حفتر فئة باغية، وهذا استدلال على سبيل التَّنَزُّل، وإلا فإنّ حفتر لم يرتق إلى رتبة الفئة الباغية؛ وإنّما هو في الحقيقة ذراع أعداء الأمة وسلاحها؛ فهو إذن أولى بالمواحهة والمقاومة.
سيقول بعضنا - وكم بالأقاويل من تهاويل - أليس من الواجب والأولى إنقاذ المنكوبين في إدلب والمستضعفين من الإيغور؟ وهو قول مما يصح أن يقال فيه: "حق أريد به باطل"، أمّا كونه من الواجب فنعم، بل إنّه لمن أوجب الواجبات، ولكن الواجب ليس واحداً والنكبة ليست واحدة، وإنّما هي نكبات امتدت حتى أوشكت أن تلتهم العالم الإسلاميّ كله، فاستتبعت واجبات لا يقوم بها إلا العالم الإسلامي كله مجتمعاً غير مفرق ومتحداً غير ممزق، فإن قام البعض ببعضه وسكت عن بعض؛ لكونه لا تتسع طاقته لجميعه فلا لوم عليه؛ إذ إنّ "الميسور لا يسقط بالمعسور" و"ما لا يدرك كله لا يترك جله" و"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها".
هذا من جهة الواجب، أمّا من جهة الأولى فكل امرئ يرى الأولى من زاوية نظره التي يختلف فيها عن الآخرين، ويبقى أنّ هناك فوارق جوهرية بين الوضع في سوريا والوضع في ليبيا تكفي لتبرير وتفسير التوقف عن التدخل المباشر الواسع في الأولى والمسارعة إليه في الثانية، أولها أنّ المقاومة في سوريا لا تزال غير قادرة على حيازة اعتراف دولي بشرعيتها وأحقيتها بالحكم، أما حكومة الوفاق فهي دوليا حكومة شرعية، مما يوفر للتدخل في ليبيا مظلة لا تتوفر للتدخل في سوريا.
عويل وتهويل:
أمّا الزعم بأنّ هذا يشكل خطرا على الأمن القومي لمصر أو غيرها من دول الجوار فلا يَعْدُ أن يكون استفزازا للشعوب واستنفارا في غير تناوشات أو حروب، وعويل وتهويل، كفعل عاهرة تدعي الشرف باللطم وشق الثياب من جيوبها إلى أذيالها، فيا أيها الساخنون البالغون في السخونة مبلغا يكاد يحرق الأخضر قبل اليابس: رويدكم، فما تحت (أستاهكم) إلا مواقد أهل الباطل سقيت من نفطنا المسلوب وقوتنا المنهوب حتى استعرت وتَلّظَّت!! رويدكم فما داس أحد فوق ذيلكم ولا عبث تحت أنفكم.
وإذا كانت الشعوب العربية في الماضي قد شربت من التاريخ المزور حتى الثمالة؛ فاعتقدت في سكرتها أن الاستعمار الغربي حررها من الغزو العثمانيّ! فإنّ الوقت قد حان للتخلص من هذه الترهات والخزعبلات، واللياذ بالوحدة الإسلامية التي لا خلاص للأمة من ظلال الاحتلال بالوكالة إلا بها، وليضع المسلمون نصب أعينهم قول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران 103).
أضف تعليقك