بقلم: سليم عزوز
باستبدال العميد محمد صفوت بالمقدم أحمد شعبان في إدارة ملف الإعلام في مصر، نكون أمام إعلان فشل تجربة، هي العسكرة المباشرة للملف الإعلامي، وإن كان الفشل وحده ليس كافيا، للوقوف على ضرورة العودة إلى خطوط ما قبل 2013، فقد صرنا أمام تجربة جديدة من العسكرة، باستبدال ضابط مكان ضابط!
تدخل الباء على المتروك، فالمسؤول الجديد هو محمد صفوت، والمغادر للملف هو أحمد شعبان، والذي كان يدير الإعلام من وراء حجاب، وبالتوجيه غير المرئي، منذ قيام الثورة. واشتدت قبضة التوجيه في سنة حكم الرئيس محمد مرسي، لكن هذه الفترة لم يكن الحضور لقبضة العسكر على الإعلام ظاهرة، كما هي الآن، ولم تكن الأوامر تصدر لجميع وسائل الإعلام. وقد كنت رئيساً لتحرير صحيفة يومية حينذاك، ولم أتلق اتصالا سواء من الشؤون المعنوية أو من العقيد شعبان، والاتصال الوحيد الذي تلقيته هو الذي يفيد بدعوتي لحضور لقاء وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، مع قيادات جبهة الإنقاذ إبان حكم الرئيس مرسي، وهو اللقاء الذي ألغي بقرار من الرئيس!
ولم يمنع هذا من وجود التوجيه لعدد من رؤساء التحرير، ولم يجرب القوم حظهم معي، وقد كنت مبكراً ضد استمرار المجلس العسكري في الحكم، وضد أي دعوة تنطلق لتثبت أركانه، وكنت أعلم (بطبيعة الحال) عن لقاءات في الشؤون المعنوية مع رؤساء تحرير آخرين!
الخطوط العريضة:
بيد أن هذه المرحلة، لم تكن تقوم على فكرة التعليمات الصارمة، فقد كانت هناك خطوطاً عريضة، وللقائم بالاتصال حق الاجتهاد والتصرف. ففي الأخير هذه مهنة لها أصولها، بيد أن هذه الأوضاع لم تكن لترضي عبد الفتاح السيسي، فكانت السيطرة المباشرة، ثم كانت تجربة فريدة من نوعها، بالاستحواذ على ملكية كثير من وسائل الإعلام لصالح الجهة السيادية إياها، وبتوجيه مباشر من قبل الضابط أحمد شعبان الذي كان يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، ويجمع حوله مجموعة من الشباب يقومون بكتابة الموضوعات، التي تلزم الصحف بنشرها كما هي ومقدمي البرامج بتلاوتها. وكانت كتابات ركيكة، تحتوي كثير من عبارات السب والقذف والاتهامات الباطلة لا سيما إذا كان المستهدف بها واحد من المعارضين، وهو ما نطالعه في الصحف منشوراً بدون توقيع. ولا يستطيع هذا الأداء العسكري البائس أن يميز بين صحيفة كـ"الأهرام" وجريدة "البعكوكة" أو ما في حكمها، فشاهدنا انهياراً مهنياً فاضحاً؛ أكد أننا نعيش في مرحلة الانحطاط.. فلا أظن أن مصر مرت بهذه الحالة من قبل!
أما في حالة الفضائيات فقد وقفنا على فضائح ضبطتها بعض البرامج، لا سيما برنامج "جو شو" على التلفزيون العربي، بفضل مهارة طاقم الإعداد، لنشاهد رسالة موحدة، كما المانشيت الموحد بالصحف، وهو التقليع الجديد الذي لم نهبط إليه ولو في مرحلة فرط الرقابة على الصحف، في زمن عبد الناصر، أو في حالة الحرب!
وشاهدنا كيف أن أحد مقدمي البرامج: "أحمد موسى" يهاجم أحد الأشخاص فجأة، ويتهمه بـ"الحقير" و"الجاسوس" و"الخائن" و"عدو الوطن"، بينما ضيفاه يسألانه في لهفة من يكون هذا الحقير؟ ويعودان بالطلب، وقد يئسا من ذكر اسمه فبدأ في المشاركة في سب هذا الخائن والحقير والجاسوس.. عدو الوطن، وفي النهاية ومع طلبهما بذكر اسمه، يقول في بلاهة: "معرفش"، فيبدو أنها رسالة خاصة من "الضابط" وورشته لشخص بعينه، تحمل تهديداً بالقدرة على استباحته، فجاءت التعليمات ولم يذكروا لـ"الآلة" الاسم، فهاجمه دون أن يسأل عن اسمه!
وقد تحول الأمر إلى فضيحة يتغنى بها الركبان، عندما كانت التعليمات لا تنتظر، ووصلت للمذيعة المبتدئة وهي تقرأ النشرة، فقرأتها وأخطأت إذا قرأت من الشاشة ما كان ينبغي حذفه، وهي أن الرسالة وصلتها عبر جهاز سامسونج.
عسكري المراسلة:
وقد بلغ تسلط القوم، أنهم كانوا يطلبون من الجميع الالتزام بالنص المكتوب وعدم الاجتهاد، فلما اجتهد أسامة كمال وظن أنه يملك مقومات الفقيه، بحكم قربه من عبد الفتاح السيسي، تمت الإطاحة به. فنحن في زمن المذيع الآلة أو "عسكري المراسلة"، ووظيفته أن يقوم على خدمة الضابط الذي يختاره، فيغسل له ملابسه ويقضي له حاجاته.
ورغم فشل التجربة، فإن السيسي الذي لا يضع ثقته الكاملة إلا في العسكر، بدأ فصلا جديدا من تجربة عسكرة الإعلام، لعل العميد صفوت ينجح في ما فشل فيه المقدم أحمد شعبان، والتجربة الجديدة تقوم على عودة رجال الأعمال من جديد للإنفاق على الإعلام، فيعود أحمد بهجت لـ"دريم"، ونجيب ساويرس لـ"أون تي في"، بعد أن بدأت الإمارات في سحب يدها من عملية تمويل تجربة إعلام العسكر، وتلويحها بوقف قناة "تن"؛ لأنها تعرضت لعملية نصب فيما يختص بالمليار جنيه الذي دفعتها لإنشاء سلسلة من القنوات التابعة لشركة "دي إم سي"، فتم الاكتفاء بقناة واحدة مع أن المدفوع هو لست قنوات من بينها قناة إخبارية لمنافسة الجزيرة، وأخرى رياضية لمنافسة "بي إن سبورت"!
لكنها عودة للإنفاق فقط وليس للولاية، فلا تزال تجربة التوجيه والتحكم المباشر قائمة لم تتغير، على عكس ما فهمت "بسمة وهبة"، فظنت أن استبدال عسكري بعسكري يعني أن التجربة القديمة طويت، مع الحديث المتواتر عن أن الاتجاه الجديد هو مع رفع سقف الحريات الصحفية، فقررت مجاملة المرحلة بالفيديو الأول، فقد طلبت الحرية، وأن تمنح الحق في الكلام، كما طلبت أوكسجين وما إلى ذلك، وباعتبار أن هذا آت لا ريب فيه، ليبدو التوجه الجديد كما لو كان استجابة لطلبها، وتصوير نفسها على أنها لم تسكت على القمع، وفي هذا أيضا مجاملة للمرحلة الجديدة، لكن من الواضح أنها عنفت على ذلك تعنيفاً جديداً تأكدت منه أنه تغيير في الاشخاص مع بقاء التجربة الفاشلة.
إن أزمة عبد الفتاح السيسي نابعة من تصوره أن الإعلام مهنة من لا مهنة له، وأن الضباط يفهمون في كل شيء، من مزارع الأسماك، إلى حفر الترع، إلى إدارة الإعلام، وعليه أن يفهم أن الإعلام مهنة تصقل بالممارسة والتراكم، وكان عليه أن يُعطي الخبز لخبازه، ويضع أمامهم المطلوب وهم يقومون على تنفيذه، وإذا اجتهدوا فلن تصدر الصحف جميعها بمانشيت واحد، وستختفي ظاهرة تكرار الرسالة الواحدة في البرامج جميعها القادمة من جهاز سامسونج!
وفي عهد عبد الناصر، صدرت صحف للتعبير عن مجلس قيادة الثورة، لكنها كانت تدار من قبل صحفيين موالين للمرحلة، وكان دور الضباط فيها إدارياً، ولا يمنع هذا أن من الضباط من تركوا العسكرية والتحقوا بالصحافة مثل "أحمد حمروش"، و"مصطفى بهجت بدوي"، لكنهم كانوا حريصين على التأكيد على جدارتهم للعمل الصحفي، تماماً كما كان من بين الضباط من عملوا في الفن مثل الضابط أحمد مظهر، وهؤلاء تفرغوا لمهنهم الجديدة وقطعوا علاقتهم تماما بالعسكرية!
دعوه يتحقق من فشله بنفسه.
أضف تعليقك