يُدهشك في الذين ينصبون مشانق الإدانة والتشفّي في المطرب الشعبي الراحل، شعبان عبد الرحيم، أنهم يتعاطون معه باعتباره صاحب انتماء أيديولوجي، أو بوصفه سياسيًا، أو مثقفًا عضويًا، كانت له اختيارات وانحيازات فلسفية.
الرجل، كان نسيًا منسيًا، لا يعرفه أحد، حتى كانت تلك اللحظة في تسعينيات القرن الماضي، عقب كارثة "أوسلو"، أو ثاني الهزائم الساحقة على موائد التفاوض العبثي بعد "كامب ديفيد"، حين انتشرت أغنيته "أنا بكره إسرائيل".
جاءت الأغنية في لحظة انسحاق وجدان المواطن العربي، ونحيبه الحارق، عقب مشاهد إقدام الجنود الصهاينة على قتل الطفل الفلسطيني، محمد الدرة، فكانت نشيدًا قوميًا، شعبويًا بسيطًا، يمتد باتساع خريطة الجرح العربي من المحيط إلى الخليج، فتحول شعبان، من حيث لا يدري، إلى رمز رغم أنفه.
في تلك الفترة، كانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والشارع العربي يشتعل بالغضب، عندما كان هناك شارع عربي مسموح له بالهتاف والتظاهر، وكانت موجات التطبيع، كذلك، في عنفوانها، إذ تغير وجه القاهرة ونمت على ضفتي النهر طحالبُ تطبيعية كثيفة، يعبر عنها مثقفون بشكل فردي، مثل المسرحي علي سالم، والمخرج حسام الدين مصطفى، أو بشكل جماعي منظم، كما الحال مع "جماعة كوبنهاغن" إلى الحد الذي شعرت معه القاهرة بالخجل من تاريخها وجغرافيتها.. هنا جاء الاحتفاء بأغنية "أنا بكره إسرائيل" على ركاكتها البلاغية والموسيقية تعبيرًا عن الاعتذار عن حالة انسلاخٍ مخجلٍ من الدور والمكانة والقيمة الحضارية.
أدى شعبان كلمات الأغنية المكتوبة له، بالطريقة ذاتها التي أدّى بها أغاني الأفراح والملاهي الليلية، إذ كان مغني اللحن الواحد والجملة الإيقاعية الواحدة. وبالتالي، كان يردد ما يُقال له، حتى لو استعملوا حنجرته للغناء للشيء ونقيضه.
بمعنى آخر، كانت حنجرته مثل فاترينة صوتية تعرض من خلالها منتجات متباينة، من دون اختيار منه، أو حتى استيعابٍ لمعاني ما يغني، بالنظر إلى فقره المعرفي والثقافي المدقع، فكان الأداء الغنائي قاربه للعبور من الفقر، بالمعنى المادي المباشر، إلى الثراء، والانتقال إلى وضع اجتماعي جديد، لم يغير شيئًا في بنيته المعرفية أو مستواه الفكري والثقافي.
لم يكن لشعبان خيار فيما يغنيه، إذ هو في النهاية صدى أكثر منه صوتا، فلو كانوا قد طلبوا منه الغناء للتطبيع، ما كان له أن يرفض أو يمانع، ولو طلب منه الغناء لثورة يناير لغنّى لها، والعكس صحيح، فهو ليس سيد درويش أو الشيخ إمام، ذلك أن أحدًا من المطربين لم يصل إلى هذه المكانة والعمق، حتى الذين ظننا أنهم من ذوي الرأي والرؤية عاموا مع التيار، وغنّوا ضد ما سبق لهم الغناء له. وخذ عندك حالة المطرب علي الحجار الذي بدأ حياته يغني "لم الشمل بلاش تفكيكة ياللي بتلعب بالبولوتيكا.. أرضك واحدة وربك واحد لا تروح روسيا ولا أمريكا"، ثم ردّد في مرحلة النضج "احنا شعب وانتم شعب لينا رب وليكم رب" مفكّكًا الشمل، مقسمًا الشعب، استجابة لما يريده ويطلبه أهل السلطة الجدد.
من هنا، تبدو غريبة هذه الرغبة في التشفي ومحاولة استنزال اللعنات على شعبان عبد الرحيم، بعد رحيله، لأنه غنّى في حفلات الرياض، وكأنه صاحب قرار، أو لديه حرية الرفض أو القبول، بينما الحقيقة أنه لو كان قد طلب منه الغناء في أي مكان آخر على وجه الأرض لنفذ الطلب، وهو يحسب أن يحسن صنعًا، ويؤدّي مهمة وطنية جليلة.
وكما قلت عنه في حياته، هو ابن كل مرحلة، فقبل سنوات كان نظام حسني مبارك يتبادل الأنخاب مع إسرائيل، في السر والعلن، لكنه يغمض عينيه عن قومجيةٍ محترفين يصرخون في الميكروفونات والمانشيتات ضد "العدو"، ويصم أذنيه عن شعبان، المطرب الشعبي، وهو يصيح "أنا بكره إسرائيل". أما الآن فقد غيّر القومجية نشاطهم، ولم يعد مطلوباً من شعبان أن يكره لهم إسرائيل.
هو باختصار كان مفعولًا به طوال الوقت، ومعبأً بخطاب غنائي ليس من اختياره، ولا ناقة له فيه ولا جمل، إذ لا يعدو كونه حائطًا يحمل لافتاتٍ وشعارات ورسائل، لم يكن يومًا منتجًا له، ومن ثم لا بأس من أن تدعو له بالرحمة، وهو بين يدي خالقه.
أضف تعليقك