بقلم: عامر شماخ
عاد صديقى المحبط لسلوكه القديم؛ بتركيز النظر على العيوب والسلبيات، دون الالتفات إلى المحاسن والإيجابيات؛ ليخرج –مثل كل مرة- بنتيجة مفادها: لا رجاء، لا رجاء!
وهذه المرة يتحدث صديقى عن أخلاق المصريين التى ساءت، وطباعهم التى فسدت، وأشار محتدًّا إلى العرى الذى انتشر، والبر الذى انعدم، وقسوة القلوب التى لم يعد لها مثيل. وقال ساخرًا: ألا تركب مواصلات عامة يا أستاذ كى ترى كيف يعامل الشباب الشيوخ؛ ولتتطلع إلى مشاهد قلة الحياء وانعدام المروءة؟
قلت: أرى كل ذلك وأكثر، لكننى لست متشائمًا مثلك، ودائمًا أنظر إلى الأشياء من جميع نواحيها، وأقلبها على أوضاعها كافة، وكما ترى أنت- فقط- هذه المشاهد المعتمة الشاذة؛ فإنى أرى إلى جوارها- أيضًا- المشاهد المضيئة. إنك يا صديقى ترى الأمور بعينك اليائسة، وأنا أراها بعينى المؤملة فى فضل الله ورحمته.
يا صديقى! لا أخالفك الرأى؛ فقد دهى المصريين أخلاقٌ غريبةٌ وسلوكاتٌ شاذةٌ لم تكن فى طبعهم، وحلَّ فى شبابهم آراء لم تكن فى أسلافهم؛ لكن رغم ذلك فإنى لا أخشى على أبناء بلدى ما تخشاه؛ فإنهم لا يزالون على الخير الذى عُرفوا به، وعلى المروءة والكرم والنجدة التى اشتُهروا بها.
يا صديقى! لا يغرنك فساد مليون أو اثنان من مائة مليون، ولا يغرنك تأييد طائفة منهم لعصابة المستبدين، فأمثال هؤلاء كانوا موجودين على عهد النبى -صلى الله عليه وسلم- والوحى ينزل، ولن يخلو منهم عهد، وإلا انتفى الصراع بين الحق والباطل. انظر يا صديقى إلى الغالبية الغالبة الرافضة للظلم، المؤيدة للحق، التى تقدم كل ساعة تضحيات بدمائها وأموالها وراحتها، ولم تستلم، ولم تيأس، ولم تنبطح، لماذا تحدثنى دومًا عن القلة من الفاسدين ولا تحدثنى عن الكثرة من المخلصين؟
يا صديقى! لقد حدثنى طالب دكتوراه عربى، جار وصديق، مؤكدًا أنه زار دولاً عربية وإسلامية عدة وأقام فى بعضها سنين عددًا فما وجد شعبًا متدينًا ولا محافظًا مثل المصريين، رغم ما يراه من انفلات فى الشوارع -على حد قوله-، ولقد أكد لى أيضًا أنه كان يظن مصر- قبل مجيئه إليها- ماخورًا، وأن أهلها على غير الملة- مما صوره له الإعلام المصرى- ففوجئ بالتزام أهلها، وامتلاء مساجدها، وفخامة طباع المصريين واستقامتهم.
يا صديقى! قد يؤخذ على شعبنا أنه رضى بالاستبداد، وسلَّم بأن يحكمه المستبدون، على فسادهم وتبعيتهم، والحقيقة أنه ليس كذلك على الإطلاق، وقد بينت لك أن فئة قليلة منافقة هى التى تفعل ذلك، أما الأكثرية فإنها ترفض هذا الحكم، لكنها تخشى الفوضى، وتكره الدماء، وتتجنب عداء الأقربين لما يترتب عليه من انقسام وتدمير، وهذا طبع الشخصية المصرية المسالمة، وطينتها المحبة للسلام، فما تراه استسلامًا ورضًى بالإجرام هو ليس كذلك، وليس جبنًا كما تظن؛ فالمصريون ليسوا بدوًا تسعهم الصحراء، وليسوا غجرًا من دون وطن، ولكنهم عائلاتٌ مستقرةٌ، وأسرٌ مترابطةٌ، ولهم علاقة ممتدة بالجغرافيا والأرض؛ ما جعلهم يحتملون تقلبات السياسة ويتقبلون تغيراتها برضى ظاهر وإن كانت دواخلهم مراجل تغلى.
يا صديقى! إن ما فُعل بهذا الشعب لم يُفعل عُشره بالشعوب التى يُضرب بها المثل فى الكفاح، ورغم ذلك بقى أبناؤه على ما كانوا عليه من الدين والسماحة، والصدق وحفظ العهود وسلامة الصدر، فلم يُعهد فيهم تفريط فى شرع أو استهانة بفرض، ولم يُر فيهم فجرٌ أو غدرٌ أو خيانةٌ ، بل كانوا دائمًا مثال الرجولة والجندية الواعية، ولا مثيل لهم لو كان قائدهم رجلاً صالحًا يخشى الله ويتقيه، واسأل التاريخ ينبئك عن لقائهم بالتتار، وما كان منهم ومن قادتهم العظام حينها.
يا صديقى! لا تَلُمْ الضحية، بل لُمْ الجانى الأثيم. إن فساد الأخلاق الذى تراه ناتج عن فساد الحكام، والناس على دين ملوكهم يا صديقى، وأى فساد أعظم من الانقلاب الذى يغرقنا بقاذوراته منذ ست سنوات وإلى الآن؟ ووالله يا صديقى لولا الإعلام الدولى والفضائح الكونية لبدَّل العسكر ديننا، ولأجبروا الناس على تغيير الملة، ولكنه قدر الله وسنته فى الذين ظلموا، وأنه حافظ دينه ومتم نوره ولو كره المجرمون.
إن ما يلاقيه المصريون يا صديقى من فقر ومرض وإهمال، وما يُفرض عليهم من مساخر ورذائل وفساد أخلاقى -كفيل بانحرافهم وخروجهم على العرف الموروث، وإن أجواء الكبت وغياب الحرية والضغوط التى لا تنتهى- كفيلة بإخراج أسوأ ما فى الشباب من طباع. أضف إلى ذلك غياب الدعاة المخلصين، وتجفيف منابع الدعوة. أليس هذا كفيلاً بإنتاج ما تراه من تحولات خلقية؟ بلى كفيل، ويدعونا إلى الافتخار بشعبنا الذى لا يزال يقاوم رغم هذا الاستهداف الذى لا تُنزع سهامه، ولا يزال محبًّا لدينه، محتفيًا به، مخيبًا ظنون من اعتبروه شعبًا خاملًا مستسلمًا.
أضف تعليقك