ما الفرق بين ما فعله في مصر محصّل القطار الذي ألقى بالشاب محمد عيد تحت عجلاته وما فعله ضابط الداخلية في المحامي الشاب كريم مجدي، داخل قسم شرطة المطرية في العام 2015؟ أو ما فعله القضاة في الرئيس الشهيد محمد مرسي، وعشرات من السجناء، حرموا من حقوقهم في محاكمةٍ عادلة، ومن ظروفٍ آدمية داخل الزنازين؟.
لو دقّقت جيدًا، لن تجد تفاوتًا كبيرًا بين الحالات الثلاث، إذ تعدّدت الوقائع والقاتل واحد، نعم هو الطغيان، القاتل الوحيد وأداة القتل في مصر، منذ تم اعتماده طريقًا للحكم ووسيلة للصعود والترقي.
سبع سنواتٍ من تكريس سيكولوجيا التسلط وتغذيتها يوميًا، حتى صار الطغيان هدفًا بذاته، وليس مجرّد وسيلةٍ للإخضاع والسيطرة، إذ تنحدر ثقافة التسلط من أعلى الهرم إلى أسفله، ليصبح سحق الذات الإنسانية مبرّرًا، بل ومطلوبًا، من أجل الحفاظ على الوطن، وفي ذلك يبدع الطغاة الصغار، محاكاةً لطغيان الكبار، وإعلانًا للولاء الكامل والالتزام التام بتلمود الاستبداد المقدّس.
في حالة إلقاء الشابين الفقيرين من القطار المنطلق بأقصى سرعة، لم يكن المحصل (الكمساري) يساوره شكٌّ في أنه يفعل ذلك من أجل مصلحة الوطن، وحفاظًا على مقدّراته وموارده، تمامًا مثل الضابط الذي يتفنن في التعذيب، ويبتكر في وسائل التصفية والقتل، كما جرى مع محامي المطرية الذي تمزّق جسده تعذيبًا حتى شاهت معالمه، ومثل القاضي الذي استمتع بحرمان الرئيس السجين من تلقّي العلاج، وقبل ذلك الحصول على قسطٍ من العدالة في محاكمته، حتى سقط مقتولًا في قاعة المحكمة، من دون أن يهرع لإسعافه أحد.
يتصرّف المحصّل (رئيس القطار وحاكمه) مثل القاضي الحاكم الفرد المطلق للمحكمة، والضابط بوصفه حاكمًا أوحد على المعتقلين والمسجونين، متماهين مع سياسة الحاكم الأعلى الذي دشّن عصره بتعليماتٍ صارمةٍ بالبطش والإجهاز على كل من يعطل سفينة الوطن، متعهدًا بأنه لا محاكمة ولا عقاب لكل من يمارس سلطته، حتى القتل، حفاظًا على البلاد من الأوغاد الذين يطالبون بشيءٍ من الحرية والديمقراطية والعدالة.
بدأت المأساة مع شيوع ثقافة التسلط، اتباعًا لسنة الحاكم القوي الجبار المسيطر بالحديد والنار على البشر والحجر، بوصفه النموذج الضرورة لكي يحيا الوطن، فليكن كل شخصٍ في دائرة عمله مثل الحاكم المثال، لتتدحرج هذه الحالة من الأعلى إلى الأسفل، فارضًة نفسها قانونًا للحياة في برّ مصر، منذ تم فرض الطغيان مادةً أساسيةً في مناهج تربية الشعب من جديد، ليتحوّل المجتمع إلى غابةٍ يمرح فيها الذئاب، استجابةً لتعليمات الذئب الأكبر، أو الطاغية الأول الذي رآه أفلاطون قبل سبعة قرون في هيئة الذئب، أو "الحيوان الأكبر".
في كتابه "الطاغية" يشرح الدكتور إمام عبد الفتاح إمام مفهوم الطاغية/ الذئب عند أفلاطون، بقوله إن أفلاطون يعتمد في تحوّل الطاغية إلى ذئبٍ على أسطورة يونانية تقول "إن المرء إذا ما ذاق قطعة من لحـم الإنـسـان ممتزجةً بلحم قرابين مقدّسة أخرى، فإنه يتحوّل حتمًا إلى ذئب".
وقد حدث مع كارثة الانقلاب في صيف العام 2013 أن تذوّق قطاع من المصريبن لحوم بشر مصريين آخرين، تم ذبحهم وشواؤهم، قرابين للوطن، فتحوّلوا إلى ذئاب، أو طغاةٍ من مختلف الأحجام، فيتسلط الأكبر على الأصغر، في تسلسلٍ مرعبٍ من حاكم القصر حتى حاكم القطار، مرورًا بكل حاكمٍ في محكمةٍ أو قسم شرطة أو فصل دراسي، لتسقط مصر، في نهاية المطاف، في مستنقع عفن من اللاإنسانية، وكأن الكل قد تواعدوا على مهرجان جماعي لاستئصال الضمير وإماتة الجلد.
تنتقل الرغبة في القهر والاستبداد هبوطًا من الأعلى إلى الأسفل، تعبيرًا عن خواءٍ روحي، وفقر أخلاقي، تم فرضهما بالقوة على المجتمع، لتكون جريمة إعدام الشاب الفقير رميًا من القطار المنطلق بأقصى سرعة عنوانًا دالًا على الشخصية كما يريدها الذئب/ الطاغية الأول. وكما قال الفيلسوف الراحل زكي نجيب محمود "فقيرة هي النفس التي تنظر إلى باطنها فتجد خواء، فتمتد إلى خارجها لتقتني ما يسد لها هذا الخواء، وماذا تقتني؟ تتصيّد أناسا آخرين ذوي نفوسٍ أخرى لتخضعهم لسلطانها! إنها علامة لا تخطئ في تمييز أصـحـاب الـنـفـوس الفقيرة من سواهم، فحيثما وجدت طاغية، صغيرا كان أو كبيرا، فاعلـم أن مصدر طغيانه هو فقر نفسه. إن اكتفي بنفسه لا يطغى. إن من يشعر في نفسه بثقة واطمئنان ليس في حاجة إلى دعامة من سواه!".
والوضع كذلك، فالشاب المقتول هو ضحية المحصّل المستبد، والأخير هو ضحية الأعلى منه، إذ كيف يأمن على نفسه الفقيرة إن خالف قانون التسلّط، حتى نصل، في النهاية، إلى أن الجميع هنا ضحايا الطاغية الأكبر والمتسلّط الأعلى الذي فرض الطغيان قانونًا وحيدًا، الويل لمن يخرج عليه.
أضف تعليقك