يجلس عبد الفتاح السيسي، مثل صاحب وكالة توظيف وتشغيل، فارضًا نفسه على تنسيق الكليات العسكرية، ليختار بنفسه الطلاب الجدد، ضباط المستقبل.
يجلس على مكتب، وحوله الضباط، وأمامه المتقدّمون للالتحاق، في مشهد مهين للجيش وللعسكرية، وكأنه ينتقي متدربين للالتحاق بشركته الخاصة، أو قل: موظف يستغل نفوذه في مؤسسة حكومية، ويديرها لحسابه.
يريد السيسي أن يقول إنه المالك الوحيد للجيش، والوكيل الحصري للعسكرية المصرية، يحكم ويتحكّم في كل شيء، وما سواه عدم، أو مجرّد ديكور لاستكمال الصورة.
على أن الرسالة الأهم هي أن مصر ليست دولة، بل هي معسكر، وستبقى كذلك، وكل ما فيها مصبوغٌ بالألوان العسكرية، من الطب إلى الهندسة والتعليم والفن والثقافة، الشعب فيها هو جمهور العسكرة، وغير ذلك ضيوف أو رعايا أو زبائن يستهلكون ما تنتجه هذه الشركة العسكرية القابضة على الأرواح والممتلكات والحريات وكل الأنشطة الاقتصادية.
كلما هبّت رياح الثورة في أي مكان في الوطن العربي، يهرع السيسي إلى المؤسسة العسكرية، لتخويف المصريين، والردع الاستباقي لمن يفكّر في الانعتاق والتحرّر، معلنًا إنه يحكم بقوة العسكرية، بوصفه، منذ البداية، الحاكم القادم من "حزب الجيش" وفقًا لبيان الترشيح الصادر من المؤسسة العسكرية، في العام 2014 والذي جاء أشبه بفرمانٍ عسكريٍّ بتنصيبه رئيسًا للبلاد، إذ قال نص البيان الصادر في يناير/ كانون الثاني 2014 "انعقد المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فى جلسة طارئة اليوم الإثنين السابع والعشرين من يناير 2014م، حيث استعرض ما تمر به البلاد في هذه الأوقات التاريخية الحافلة بالأحداث الكبرى".
وتضمّن البيان الذي أذاعته القوات المسلحة على التلفزيون المصري فقرة تقول نصاً "ولم يكن في وسع المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلا أن يتطلّع باحترام وإجلال لرغبة الجماهير العريضة من شعب مصر العظيم في ترشيح الفريق أول عبدالفتاح السيسي لرئاسة الجمهورية، وهي تعتبره تكليفاً والتزاماً".
فيما بعد، ومع مرور سنةٍ على تولي السيسي السلطة، أصدر المجلس العسكري بيانًا يستعرض فيه ما أسماها إنجازاتٍ مرشحه خلال عام، غير أن"المرشح العسكري المكلف" استدار يلتهم تراث المؤسسة العسكرية، ويصادرها لحسابه، ليرفع الستار عن تحوّل مصر من جمهورية عسكرية إلى مملكة عسكرية، للسيسي وأولاده وعائلته. وفي الطريق إلى ذلك، أطاح عديدًا من القيادات العسكرية، القديمة والجديدة، ليتحوّل الجيش إلى "مجموعة استثمارية" يمتلكها ويديرها السيسي وأولاده.
هذا البناء العائلي الضخم أخذ في التصدّع، مع كشف المستور مما يجري، وهو ما جعل المؤسسة في وضعٍ محرج للغاية، وخادش للعسكرية الحقيقية، وقد تنامى شعورٌ بالتململ والخجل مع خروج بعض الأسرار إلى العلن، عن طريق تسريبات المقاول محمد علي، الهارب من جنة العسكرة، وعجز السيسي عن تقديم ردودٍ مقنعةٍ تدحض رواية المقاول.
كل ما فعله السيسي، وما زال يفعله، هو توريط الجيش في خصومةٍ مع الشعب، واستخدامه فزّاعة في وجه من يريد لمصر أن تتحرّر من سجن أوهامه، لكن أخطر ما في الأمر هو تصاعد عمليات استهداف المدنيين، بالعشرات، في سيناء خلال الفترة الأخيرة، إذ ارتُكبت مجزرتان بحق المدنيين في غضون أسبوعين، بما يشي بأن الجنرال مصمم على صناعة قطيعةٍ تامةٍ بين الجيش والشعب، معتبرًا أن في ذلك ضمانة بقائه في السلطة.
وفي ذلك مهين للقيم الوطنية والعسكرية أيضًا، ما تكشف عنه ناشطة سيناوية، كتبت تقول إنه يتم إجبار أهالي ضحايا القصف الجو في سيناء على التوقيع على إقرار قبل استلام الجثمان بأن الضحية قتل على يد مجهول، ويُجبر بعد ذلك على توقيع أوراق تفيد استلام مبلغ 70 ألف جنيه من الجيش، نوعًا من المساعدة والدعم له.
والشاهد أن السيسي لم يتوقف عن زجّ الجيش في خصومةٍ مع الشعب، منذ اعتلى الحكم، غير أنه الآن يبدو أكثر إصرارًا على تحويل الجيش إلى مؤسسةٍ خاصة، يمتلكها ويديرها الجنرال وأولاده، ومن يعترض مصيره مثل مصير سامي عنان وأكثر من ثلاثين قيادة تم فرمها وحفظها في ثلاجة الاستبداد.
أضف تعليقك