فجأة دبت الروح في جامعة الدول العربية بعد دفنها منذ سنوات عدة، لم تحركها في مرقدها كل الأحداث الجسام والمآسي الدموية التي مرت على الأمة، منذ الغزو الأمريكي للعراق ثم تقديمه على طبق من فضة لإيران، ولم يُقلق مرقدها الغزو الروسي والإيراني لسوريا، وارتكابهما أبشع الجرائم في حق الشعب السوري، ولم تهتز للحرب السعودية في اليمن، والمذابح الشنعاء التي ارتكبت في حق الشعب اليمني، ولم يحركها الغزاة من كل جنس ولون الذين انقضوا على ليبيا ودمروها وقتلوا الآلاف من شعبها، ولم تر اعتداءات الصهاينة المستمرة على غزة وحصار شعبها وتجويعه، ولم تلتفت لحصار دولة قطر ولا.. ولا..
ولكنها بقدرة قادر، خرجت من المقبرة بمجرد أن أعلن الرئيس "رجب طيب أردوغان" بدء العملية العسكرية المسمي "نبع السلام" شرق الفرات، وبسرعة البرق أصدرت بيان إدانة لتركيا، وعقدت اجتماعاً على مستوى وزراء الخارجية على الفور لإدانة ما أسمته بالعدوان التركي على سوريا، ومطالبة تركيا بالانسحاب الفوري من الأراضي السورية وإلا ستتخذ إجراءات سياسية واقتصادية وسياحية في ما يتعلق بالتعاون معها.
وبلا جدال، فإن الذي أخرج هذه الجثة الهامدة من المقبرة وأنطقها هما دولتا الشر في الخليج، السعودية والإمارات، اللتان جن جنونهما وهاجمتا تركيا بشدة منذ اللحظة الأولى، ووصفتا عملية "نبع السلام" بالغزو التركي على سوريا العربية، وأنها انتهاك لسيادتها، واشتغلت الآلة الإعلامية الجبارة لهما على هذا المنوال، بلا استحياء أو حمرة خجل، وهما اللتان غزتا بلدا عربيا شقيقا، اليمن، وقتلتا الآلاف من شعبه، وحرقتا الأخضر واليابس فيه، ودمرتا بنيته التحتية وهدمتا مبانيه وآثاره التاريخية، وأعادتاه إلى العصر الحجري، غلاً وحقداً.
تغافلت السعودية والإمارات (يد الصهاينة في المنطقة ومعقل الثورات المضادة واللتان تُدار فيهما كل المؤامرات ضد الأمة بمساعدة المخابرات الأمريكية والصهيونية) عن الاحتلال الروسي والإيراني لسوريا، وصمتتا صمت القبور على الانتهاكات الجسيمة والجرائم الوحشية التي ترتكب في حق الشعب السورى.. وإذا بهذه الحناجر الخرساء تنطق ويعلو صوتها وتصرخ عندما دخلت تركيا الأراضي السورية، والتي لم تعد تحت سيطرة النظام، وأصبحت أراضىي يقام عليها كيان يتبع تنظيم العمال الكردستاني التركي (pkk) الذي يصنف دولياً على أنه منظمة إرهابية، تحت اسم "روجافا"، ويعني باللغة الكردية "غرب كردستان". وتم تعليق صور زعيم الحزب "أوجلان" على المباني وفي الميادين، مع اتهامات بتغيير ديموغرافي في المنطقة، وعدم السماح للمهجرين بالعودة إلى مناطقهم.
هذا الكيان أنشأته أمريكا ودعمته مالياً وعسكرياً ولوجيستياً، ودفعت دولتا الشر ثمن السلاح.
ومبعث قلق تركيا أن منظمة "pkk" تعمل دائماً على زعزعة الاستقرار في الأراضي التركية من أجل الانفصال، وتتهم بالقيام بأعمال إرهابية من قتل وتفجير وترويع للآمنين في البلاد.
هؤلاء هم مَن أحيوا الجامعة العربية بعد موتها، وكان يجب عليها أن تغير اسمها مع ميلادها الجديد لتصبح "الجامعة العبرية"، فمواقفها تتماهى مع الكيان الصهيوني وتعبر عنه.
فقد أدان "نتنياهو" بعنف، في بيان رسمي، عملية "نبع السلام"، وتباكى على تلك المنظمات، وحذر من قيام تركيا ووكلائها بتطهير عرقي بحق الأكراد في سوريا، وطمأنهم في تغريدة له بأنه لن يتخلى عنهم، مبدياً استعداد بلاده لبذل كل جهد ممكن لتقديم المعونات الإنسانية إلى الشعب الكردي الباسل..
وليس غريبا علينا تلاقي الأنظمة العربية المتصهينة مع قادة الكيان الصهيوني في المواقف خلال السنوات الأخيرة، بعدما سقطت الأقنعة وأصبحت كل القضايا تدار من فوق الطاولة، وليس من أسفلها كما كان الحال في الماضى البعيد!
ولكن أمن أجل تلك هذه المليشيات ثاروا وهاجوا وماجوا، ومعهم بعض دول الاتحاد الأوروبي"؟ بكل تأكيد لا، وليس حباً في الأكراد، بل كرهاً في تركيا والرئيس "رجب طيب أردوغان" شخصياً.
فالأنظمة العربية المتصهينة تخشاه كزعيم قوى يقود الأمة الإسلامية وتلتف حوله الجماهير، والسعودية تريد أن يكون في يدها الزعامة، من منظور عقائدي، مستغلة الظرف التاريخي والجغرافي لوجود الحرمين الشريفين على أرضها، وترى أردوغان خطراً عليها، وخاصة بعد تعلق الشعوب العربية بشخصه، واحتضانه للاجئين العرب من مختلف البلدان العربية، واتخاذ تركيا ملاذاً آمناً للمضطهدين والمستضعفين في بلدانهم، لذلك مولت السعودية والإمارات محاولة الانقلاب الفاشلة عليه عام 2016.
أما الغرب، فهم لا يريدون دولة في العالم الإسلامي قوية، حتى لو كان دستورها علماني، ولا حكاما أقوياء مستقلين على شاكلة "أردوغان"، وأن يصبح نموذجاً للحكام المسلمين، بل يريدونهم أذلاء تابعين خانعين كحكام الدول العربية.
أما فرنسا، فكانت تأمل أن ترث أمريكا في سوريا بحكم تاريخها فيها كإحدى مستعمراتها في الشرق، وترى في الأكراد حليفاً قوياً لها..
عملية "نبع السلام" ليست موجهة ضد الأكراد، بل ضد المليشيات التي تسيطر على مناطق غالبيتها عربية، وموجهة بالتحديد ضد منظمة "pkk" وفروعها في سوريا (قسد، ب ي د، ي ب ج)، التي تريد تقسيم سوريا والعراق وتركيا. وهؤلاء لا يمثلون الشعب الكردي الأصيل، الذي خرج منه القائد المغوار "صلاح الدين الأيوبي" الذي وحد الأمة وحرر القدس. ولا بد دائماً أن نفرق بين تلك المليشيات الكردية المرتزقة، وبين الشعب الكردي العظيم، أخوة الدين والتراب.
لقد طالب "أردوغان" مراراً وعلى مدى منذ سنوات بإقامة منطقة آمنة في الشمال السورى، ليعود إليها ملايين المهاجرين السوريين المتواجدين في تركيا، وظل ترامب يراوغه، إلى أن وضع الجميع تحت الأمر الواقع وبدأ عمليته التي أراها قد تأخرت كثيراً. فقد ترك إيران وروسيا تقتلان في الشعب السوري، وتخربان وتعبثان في البلاد وتدمران حضارتها، وتنهبان ثرواتها، وتغيران من التركيبة السكانية في البلاد..
الخلاصة، أردوغان يحارب لتأمين حدود دولته والمحافطة على وحدة تركيا، ووحدة سوريا وعدم تقسيمها على يد تلك المليشيات الانفصالية. تركيا لن تحتل سوريا، بل ستعيد العرب والأكراد والتركمان والسريان الذين طردوا إلى مناطقهم، وتسليم هذه المناطق لإدارة محلية، كما حدث في "عفرين"، ومدها من قبل تركيا بكل ما يحتاجه سكانها من خدمات أساسية.
أما روسيا التي أتت من وراء البحار كقوة احتلال، وإيران التي أتت من الشرق لدعم مليشيات طائفية مجرمة على حساب الشعب السورى، فهما المحتلان حصراً لسوريا.. فيا جامعة الدول العربية "شدي حيلك" معهما طالما أنك خرجت من مقبرتك، وقبل أن تعودي إليها من جديد، وإلا فالسلام عليك وعلى القومية العربية.
أضف تعليقك