بقلم وائل قنديل
كانت مشكلة محمد البرادعي، ولا تزال، أن حركته بطيئة، ومتردّدة، إذ يبدو، في بعض الأوقات، منخرطًا في المعضلة المصرية، ثم يدخل في حالة صمتٍ مطبق، تكفي لتبديد ما تجمّع من سحب الأمل في الفضاء السياسي.
خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف، تلك كانت السمة التي تميز حركة البرادعي، منذ أطل من نافذته البعيدة على الواقع السياسي في مصر، وأتذكّر في أوائل ديسمبر/ كانون أول 2009 أنه قد استفزته فقرة في مقال لي تعليقًا على تصريحٍ له بشأن العراق اعتذر فيه عن "موافقته على أشياء كان يجب ألا يوافق عليها"، بنص عباراته.
فيما بعد، أرسل البرادعي أوراقًا تؤكد أنه عارض، بشكل مبدئي، حرب جورج بوش على العراق، غير أن المناخ الدولي المعبأ بالجنون جعل معارضته أشبه بصرخةٍ في البرية، لم يستمع إليها أحد، على اعتبار أن الاعتذار بعد خراب مالطا لا قيمة له، وعلى أساس أن صحوة الضمير بعد الكارثة لا تُعفيه من المسئولية الأخلاقية لصمته في أثناء ارتكاب الجريمة.
بعد ذلك بأيام، سافر وفد من صحيفة الشروق لمحاورة البرادعي في فيينا، تحدث فيه مطولًا عن عمله في وكالة الطاقة الذرية، لكن أبرز ما في الحوار المطول كان إعلانه العودة إلى مصر والترشّح ضد حسني مبارك. وهنا دخلت الحملة ضده في طورٍ أكثر سعارًا وبذاءة.. وفي مقابل ذلك، كان الملتفون حوله لا يطيقون سماع كلمة نقد واحدة لما يقول، فكتبت في نهاية فبراير/ شباط 2010 تحت عنوان"ديكتاتورية البرادعي" ما يلي:
أقرّ أنا الموقع أدناه أن الدكتور محمد البرادعي قيمة محترمة قدمت لمصر أهم وأبقى وأرقى بكثير مما قدمه منتخب حسن شحاتة.. ولكن!
لماذا يعتبر البعض أن النقاش حول البرادعي كفكرة ومشروع يعنى وقوفا عكس تيار التغيير وانحيازا لما هو قائم؟ بمعنى لماذا يريد بعض المتحمسين أن نقبل بمشروع البرادعي كما هو، بلا نقاش أو طلب إجابات عن أسئلة كثيرة، قبل أن نمنحه توكيلا على بياض لقيادة سفينة التغيير؟
كنت أرى فيما يطرحه البرادعي الكثير مما يصلح لتأسيس تيار تغيير حقيقي، بشرط ألا يطلب منا أحدٌ من المندفعين حماسا، بشكل متشنج أحيانا، أن نلغى عقولنا، ونتوقف عن طرح الأسئلة والاختلاف معه أحيانا، مع الأخذ فى الاعتبار أن سماء البرادعي لا تزال غائمة، ولم يحسم الرجل بعد حجم الدور الذى يمكن أن يلعبه فى إحداث التغيير".
قلت أيضًا "ولا يستطيع أحد أن ينكر أن البرادعي جاء في لحظة تاريخية فارقة، جعلته بمثابة حجرٍ ضخم ألقى فى البحيرة، فحرّك المياه الآسنة، لكني أخشى من أن نترك البحيرة، ونبالغ في تقدير وتقديس الحجر حتى نصنع منه أسطورة أخرى، وغني عن القول إنه حينما تأتي الأساطير يخلد العقل للنوم، أو على الأقل تتعطل أدوات التفكير.
وعلى الذين يريدونها مبايعة لا مشاركة، وتسليما لا مناقشة، أن ينتبهوا إلى أنهم، من حيث لا يدرون، يشرعون في استبدال ديكتاتورية قديمة بأخرى جديدة، حتى وإن كانت الجديدة مدنية وعالمية ومرموقة".
عاد البرادعي إلى مصر ليمنح مشروع التغيير دفعة هائلة من خلال حملة المليون توقيع، التي يشهد المنصفون بأن الإخوان المسلمين لعبوا دورًا كبيرًا في اكتمالها، ليطلق البرادعي فيما بعد تصريحه الأشهر إن تظاهرة مليونية واحدة كفيلة بإسقاط النظام، وهو ما حدث في ثورة 25 يناير في العام 2011، فكتبت "أما وقد أتت الثورة ثمارها، واستطاع المصريون إزاحة نظامٍ صغرت به ومعه مصر، وهلت بشائر مستقبل أفضل، واحتفل الثوار بانتصارهم، فمن المهم الآن، بل ومن الضرورى والواجب أن نتحدث عن محمد البرادعى، هكذا بدون ألقاب، باعتباره رمزا وعلامة وطنية مسجلة بحروف من نور".
رحل نظام مبارك، وتعلقت أبصار المصريين بالبرادعي رئيسًا جديدًا لمصر الجديدة، إلا أن الرجل، وعلى طريقته المعتادة "خطوة إلى الأمام وخطوات إلى الخلف" تراجع عن الاستمرار في السباق، بعد أن أعلن عن اعتزامه الترشح على الهواء مباشرًة، وتلك كانت الضربة التي تلقتها ثورة يناير من الرجل الذي كان أيقونتها الكبرى.
.. وهذا حديث آخر يستحق مساحة أكبر.
أضف تعليقك