بِســمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـمِ
أيها السادة:
أرأيتم بقعة من أديم الأرض أهملت فأنبتت الشوك والسعدان وصارت قفرا بورا لا تنبت زرعا ولا تمسك ماء.. وأخرى تعهدها زارع ماهر بالإصلاح والحرث فإذا هي جنة يانعة تنبت من كل زوج بهيج .. ذلك مثل الأفراد والأمم إذا أهملها رجال التربية ولم يعنوا بوسائل إصلاحها ورقيها ، وهذا مثلها إذا قاموا عليها بالرعاية وساروا بها إلى غاية .. فالتربية الصحيحة تهيئ الفرد للعيشة الكاملة وتصل بجسمه وروحه إلى الكمال الإنساني وترشده إلى حقوقه وواجباته وهي لهذا أكبر مؤثر في حياة الأمم ، وعليها يتوقف مقتبلها وعنها تنتج عظمتها وسقوطها.. في الكون كل وسائل السعادة للبشر أودعها الله فيه يوم أبدعه ولا ينقص الناس إلا أن يتعرفوا هذه الوسائل ويهتدوا إلى الطريق الموصل إلى استثمارها على وجهها ليحيوا حياة طيبة في الدنيا والآخرة.
علمت ذلك الأمم الحديثة ، فكان أول ما تهتم له في مناهجها الإصلاحية التربية تحديد غايتها وتعرف أقرب الوسائل للوصول إلى هذه الغاية .. أراد فردريك الأكبر مصلح بروسيا العظيم أن يصل بأمته إلى أوج العظمة فوجد أن أقرب الوسائل لذلك إصلاح التربية بإصلاح أهم وسائلها وهي المدارس فأصدر قوانينه المدرسية العامة في سنة 1763 ميلادية ..
وهنا يحسن أن أذكر حضرتكم بأن التربية أمر يشمل كل المؤثرات في حياة الشخص وأن التعليم وسيلة من وسائل التربية فقط ، ولما كان أهم وسائلها كان مرادفا لها في أذهان كثيرين ، فنحن حينما نقول التربية نقصد بها ذلك المعنى الأعم الذي يشمل التعليم وغيره من وسائلها وقد ذكر الباحثون في حياة الأم أن السر في نشاط الإنجليز وعظمتهم ما اختطوه لأنفسهم من طرق التربية الصحيحة بفضل رجالهم المربين أمثال سبنسر وهكسلي وتشارلس إليوت وغيرهم من القدماء والمحدثين..
وهذا إدمون ديمولان العالم الاجتماعي الفرنسي العظيم يهيب بأمته أن تفكر في سبيل إصلاح التربية معتقدا أن نقص التربية وفسادها هو السبب الأول في كل ما يعرض للأمة من الآلام والأزمات ، وأن في إصلاح التربية وتكميلها علاج كل ذلك وما أبعد نظر ذلك الطبيب الذي ترك الطب واشتغل بأمور التربية ومعالجة مسائلها ، فلما سئل عن ذلك كان جوابه: (وجدت بالاستقراء الدقيق أن معظم أسباب العلل الإنسانية الجسمية والنفسية يرجع إلى نقص في التربية فآثرت أن أستأصل الداء من جذوره باستئصال سببه الأول على أن أقضي الوقت في علاج ما ينجم عن هذا السبب والوقاية خير من العلاج ولا أشك أني بذلك أقوم بخدمة أعظم للإنسانية بقدر ما بين طب الأمم وطب الأفراد).
وقديما قال الإمام الغزالي: (وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملا وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية بالغذاء فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم … والصبي مهما أهمل في ابتداء نشوئه خرج في الأغلب رديء الأخلاق كذابا حسودا سروقا نماما لحوحا ذا فضول وضحك وكياد ومجانة وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب).
ومن ذلك أيها السادة ترون أن التبعة الملقاة على عاتق المربين عظيمة إذ أن بيدهم تشكيل نفسية الأمة ورسم حياتها المستقبلة.
غاية التربية التي نرجوها لأمتنا
يجب أن نحدد غايتنا من تربية النشء تحديدا دقيقا واضحا حتى يمكننا معرفة الوسائل المؤدية إلى هذه الغاية وما لم نحدد الغاية فإننا نسير بالأمة على غير هدى .. ويجب أن تكون هذه الغاية شاملة ومشتركة مرضية حتى تتوجه إليها الأمة كتلة واحدة فإن تعدد الغايات في الأمة
الناشئة وبخاصة في بدء نهوضها يؤدي إلى تفريق القوى وتوزيع الجهود ، فلا تصل الأمة إلى القصد إلا بعناء وبعد زمن ..
وقد اختلف المربون في غاية التربية الإنسانية اختلافا كبيرا فمنهم من جعلها السعادة ، ولكل في السعادة نفسها مذهب خاص , ومنهم من جعلها الارتزاق , ومنهم من جعلها روحية محضة ، ومنهم من جعلها الفضيلة والكمال ، ومنهم من جعلها العيشة التامة.. إلى غير ذلك من الغايات التي كان ينتزعها أصحابها من مستلزمات عصورهم ومن روح التفكير التي تسود تلك العصور واختلفت تبعا لتلك الوسائل وإن كان المربون قديما وحديثا أجمعوا على وجوب العناية بالغاية الدينية.
ولسنا بصدد مناقشة هذه الغايات وبيان الأولى منها بالعناية والرعاية ، ولكن الذي يعنينا أن نحدد غايتنا نحن تلك الغاية التي يجب أن تتوجه إليها جهود الأمم الإسلامية في هذا العصر بعد الإلمام بكل ما يحيط بها من الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية وغيرها ..
وكأننا برأس الموضوع نفسه يملى علينا هذه الغاية ويلخصها في أنها: ..حب الإسلام والتمسك بآدابه والغيرة عليه.
وبما أن هذا الدين يأمر بالعناية بالشئون الدنيوية ويحث على السبق والتبريز فيها مع عدم إغفال أمر الآخرة على حد قوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص:77) , وعلى حد قوله تعالى: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل:97) .
فليست التربية الإسلامية تربية دنيوية عملية كما كانت عند اليونان مثلا ، وليست دينية محضة كما كانت عند الإسرائيليين قديما ، وإنما هي جماع بينهما , كما مدح جرير عمر بن عبد العزيز:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
ونزيد ذلك تفصيلا فنقول: غاية التربية المقصودة:
ا – تحبيب الإسلام إلى النفوس والغيرة عليه.
2 – تهيئة السبيل للنجاح في الحياة.
3 – الدفاع عن المصلحة الدينية والدنيوية وتنمية الشعور بالغيرة
وإذن فما الوسائل التي تؤدينا إلى هذه الغاية؟
وسائل إصلاح التربية الإسلامية
يتأثر الناشئ في حياته بعوامل كثيرة وإصلاح تربيته وقفٌ على إصلاح هذه المؤثرات وتوجيهها نحو الغاية الخاصة. وأهم هذه المؤثرات: المنزل ، والمدرسة ، والبيئة.
المنــزل
الطفل أول ما يرى من الوجود منزله وذويه فترتسم في ذهنه أول صور الحياة مما يراه من حالهم وطرق معيشتهم ، فتتشكل نفسه المرنة القابلة لكل شئ المنفعلة بكل أثر بشكل هذه البيئة
أولى ، لقول الإمام الغزالي: (الصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة وهو قابل لكل ما نقش ومائل إلى كل ما يمال به إليه فإن عُوّد الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة أبواه وكل معلم له ومؤدب ، وإن عُوّد الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد عليه الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)
وإلى هذا أشار أبو العلاء في قوله:
وينشأ ناشئ الفتيـان منـا على ما كان عوده أبوه
ما دان الفتى بحجي ولكن يعوده التديـن أقربوه
وإذا كان للمنزل كل هذا الأثر في حياة الطفل وجب ـ تحقيقا للغاية السالفة ـ أن يحاط بكل ما يغرس في نفسه روح الدين والفضيلة ، وأهم الوسائل في إصلاح المنزل:
أولا ـترقية تعليم المرأة عندنا وتزويدها في المدارس بالقدر الوافر من الدين والخلق وإفساح المجال في مناهج دراسة البنات للبحوث البيتية وتراجم فضليات النساء اللاتي كن مضرب المثل في الخلق الفاضل في زمنهم كنسيبة بنت كعب , وأسماء بنت أبي بكر , وصفية بنت عبد المطلب , وخولة بنت الأزور , وسكينة بنت الحسين وغيرهن كثير..
فالأم مدرسة إذا هذبتها أخرجت شعبا طيب الأعراق
أما أن تستمر مناهج تعليم البنات عندنا كما هي عليه الآن فتعني بالكمالي والضار وتترك الضروري والنافع فهذا مما لا يبشر بحياة طيبة للنشء الإسلامي ..
تدرس البنت في مدارسنا الموسيقى واللغة الأجنبية والهندسة الفراغية والقانون الآن ، ثم هي لا تعلم شيئا عن تربية الطفل ولا تدبير الصحة ولا عالم النفس ولا الدين والخلق ولا تدبير المنزلي!!.. فأي منهج هذا وإلى أي غاية يوصل ؟! ..
من لي بتربية البنات فإنها في الشرق علة ذلك الإخفاق
والأم إذا صلحت فانتظر من ابنها أن يكون رجلا بكل معنى كلمة الرجولة وأنت إذا استقرأت تاريخ العظماء وجدت أن السر في عظمة الكثيرين منهم ما بثته فيه الأم من المبادئ الصالحة القويمة بحكم اللبان والتلقين .. وما كان على بن أبى طالب كرم الله وجهه في حبه للحق وغيرته عليه ومناصرته للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا معاوية في حلمه ودهائه ، ولا عبد الله بن الزبير في شجاعة نفسه ، ولا الزبير نفسه في ذلك إلا سرا من أسرار فاطمة بنت أسد ، وصفية ابنة عبد المطلب ، وأسماء بنت أبى بكر ، وهند بنت عتبة.
ولئن كان الولد سر أبيه ، فكل إناء ينضح بما فيه ..
وحري بمن يسمع في مهده لأول عهده بالحياة ـ ترنيمة أمه:
ثكلت نفسي وثكلت بكري إن لم يسد فهـرا وغير فهـر
بالحسب العـدّ وبذل الوفر حتى يوارى في ضريح القبر
أن يكون سيدا تتفجر الحكمة من جنبيه ، وتنطوي السيادة في برديه ، كما كان عبد الله بن عباس بتأثير أمه أم الفضل بنت الحارث الهلالية.
وحري بمن يطرق سمعه لأول مرة تلك الأغاني الخليعة والترنيمات الغثة التي يداعب بها أمهات هذا العصر أبناءهن أن ينشأ ماجنا خليعا فاتر الهمة ضعيف النفس ..
الأم أستاذ العالم والمرأة التي تهز المهد بيمينها تهز العالم بشمالها ، فلأجل أن نصلح المنزل يجب أن نصلح الأم التي هي روحه وقوامه..
ثانيا ـأن يحرص الأبوان على أن يكونا خير قدوة لابنهما في احترام شعائر الدين والمسارعة إلى أداء فرائضه وبخاصة أمامه وعند حضوره يؤدون الصلاة ويقصون عليه من نبإ الصالحين ، فأيقظ غرائزه في هذه السن غريزة التقليد ، والمثل الأعلى أمامه أبواه ومن يحيط به من ذويه ، فعليهم أن يكونوا كما كتب عمر بن عتبة لمؤدب ولده: (ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك فإن عيونهم معقودة بعينك فالحسن عندهم ما صنعت والقبيح عندهم ما تركت).
ثالثا ـأن يضع كل من الوالدين نصب عينه أن يشبع أبناءه بروح الدين والشعور الإسلامي في كل الفرص المناسبة يتحدث إليهم عن عظمته ورجاله وفائدته وأسراره ، ويصطحبهم إلى المساجد والمنتديات الدينية ويشعرهم المخافة من الله تعالى وهيبته باستخلاص العبر من الحوادث ، وأن يعنى بتحفيظهم شيئا من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعا ـأن يحول الأبوان دون تسرب الكتب الهازلة والصحف الماجنة إلى ابنهما لا بالمنع والتهديد فإن ذلك مما يزيد شغفه بها وإقباله عليها ولكن بصرفه إلى كتب نافعة مغرية وإثارة الميل فيه إلى هذه الناحية الصالحة..
وهنا أذكر شدة حاجتنا إلى كتب في القصص العام الإسلامي للأطفال تجمع بين تشويقهم إلى المطالعة وملاءمتها لمداركهم وقواهم العقلية وتزويدهم بالشعور الإسلامي ، والقصص الإسلامي غني بذلك من سير الصحابة والتابعين وأمثالهم رضوان الله عليهم..
وأذكر كذلك ضرورة احتواء المنزل على مكتبة مهما كانت يسيرة إلا أن كتبها تختار من كتب التاريخ الإسلامي وتراجم السلف وكتب الأخلاق والحكم والرحلات الإسلامية والفتوح ونحوها.. ولئن كانت صيدلية المنزل ضرورية لدواء الأجسام ، فالمكتبة الإسلامية في المنزل ضرورية لإصلاح العقول..
وما أجمل أن أذكر هنا قول سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه: (إننا لنروّي أبناءنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نروّيهم السورة من القرآن)
تربية النشئ
أما واجب جمعيات الشبان المسلمين في ذلك فهو إيجاد هذه الروح في الشعوب الإسلامية وتشجيعها بكل وسائل الإمكان ، ومن هذه الوسائل:
1 – درس نظام المنازل والأسر الإسلامية لتعرف أوجه النقص وأسبابه وأوجه الكمال ووسائلها وذلك من برنامج اللجنة الاجتماعية التي نصت عليها اللائحة الداخلية.
2 – حمل الأعضاء أولا على ذلك وإقناعهم بأن هذا من أهم الأغراض التي ترمي إليها الجمعية والتي تؤدي إلى تكوين نشء إسلامي فاضل ، ثم هم بعد ذلك يقومون بدعوة غيرهم.
3 – الإكثار من المحاضرات في شئون الأسرة والطفل وتوزيع النشرات لترويج هذه الدعاية.
4 – تأليف اللجان لتصنيف الكتب القصصية اللازمة لخلق هذه الروح في نفوس الأطفال ، وفي الجمعيات بحمد الله من يمكنهم ذلك بسهولة لو وجهوا له شيئا من عناياتهم ووهبوا له جزا من أوقاتهم وهو من واجب اللجنة العلمية المذكورة في اللائحة.
5 ـ مطالبة الوزارة بإصلاح مناهج تعليم البنات ومدارس المعلمات والإكثار من التعليم الديني وتراجم شهيرات النساء المسلمات ونحو ذلك مما يتصل به والاهتمام بهذا الأمر اهتماما يتناسب مع جليل خطره.
6 ـ إنشاء مدارس لتعليم البنات وهذا يكون طبعا بعد أن يشتد ساعد الجمعيات ويقوى ، وتجد المعاونة من أغنياء الأمة وسراتهم.
وأراني هنا مضطرا إلى القول بأن جمعيات الشبان المسلمين لم تحقق هذه الغاية إلى الحد المأمول منها ، ولهذا يرجع ذلك إلى أنها في بدء التكوين وإلى أن ماليتها محدودة لا تتسع لذلك إلا أن الواجب أن تهتم بكل وسيلة ممكنة حتى تتمكن في النهاية من كل الوسائل.. والله ولي التوفيق.
المدرســة
وهي العامل الثاني من عوامل التربية وهو أهمها وأبلغها أثرا في حياة الطفل إذ تقوم بالقسم الأعظم من تربيته وهو التعليم والثقافة العقلية ، فيجب أن نوجه إليها العناية بالإصلاح حتى تؤدي إلى الغاية المنشودة.
وإذا قلنا المدرسة فإنما نعنى أمرين مهمين لا يفترق أحدهما عن الآخر:
أولهما: مناهج التعليم التي هي بمثابة الغذاء العقلي للتلميذ..
والثاني: المعلم الذي يقوم بتوصيل هذا النداء إلى العقل..
ولإصلاح المدرسة يجب العناية التامة بإصلاح هذين..
ولإصلاح المعلم عدة وسائل:
أيسرها وأقربها إلى التحقيق مطالبة الوزارة بإصلاح مناهج مدارس المعلمين بأنواعها وجعلها غنية بالتعليم الديني والتاريخ الإسلامي وفلسفة العقائد وأسرار التشريع ونحو ذلك..
يلي هذه الوسيلة أن تقوم جمعيات الشبان المسلمين بفتح فصول ليلية وفى الإجازات الطويلة كإجازة الصيف مثلا لمن يحب من المعلمين وطلبة مدارس المعلمين من الأعضاء وغيرهم أن يدرس فيها هذه المواد على أيدي كبار حضرات الأعضاء المستطيعين لذلك.
يلي هذه الوسيلة وسيلة أخرى تحول دونها عقبات كثيرة وتغنى عنها الوسيلة الأولى إذا تحققت.. ذلك أن تقوم جمعيات الشبان المسلمين بإنشاء مدارس لتخريج معلمي الدين والأخلاق واللغة العربية ، والعقبات التي تحول دون ذلك قلة المال وعدم اعتراف الحكومة بإجازات هذه المدارس وشهاداتها وحينئذ يكون هذا النوع من المعلمين قاصرا على مدارس جمعيات الشبان على اختلاف أنواعها..
ويذكرني ذلك نظام اليسوعيين في مبدأ أمرهم … فقد تألفت جمعياتهم لنصرة البابا ، وبث الكثلكة في النفوس ، ورأوا أن خير وسيلة لذلك هي إصلاح التعليم فأنشأوا مدارسهم على طبقات مختلفة: منها الابتدائي والثانوي والعالي , بهذين كان جل اعتنائهم , وانفصلوا عن كل نظام للتعليم إذ ذاك منفردين بنظم إدارية وفنية خاصة ، واضطرهم ذلك إلى تكوين معلمي هذه المدارس تكوينا خاصا ينتج ما ترمي إليه جماعاتهم من الغايات..
وقد لاقوا في مبدأ أمرهم نجاحا عظيما ، وكانت مدارسهم تعد بالمئين ، ولا تزال آثارهم في الجهاد لدعوتهم باقية إلى الآن.
تربية النشئ
فإذا لم توافق الحكومة على العناية بالتعليم الديني في مدارسها طبق ما تريد جمعيات الشبان وطبق ما ينتج الغاية الإسلامية المطلوبة ، وتمكنت جمعيات الشبان من سلوك هذا الطريق الاستقلالي في شئون التعليم فإنها تكون أبرك وأنفع خطوة يتيمن بها العالم الإسلامي ويرجو من ورائها الفتح والظفر والرجوع إلى حظيرة دينه القويم..
وقريب من هذه الفكرة ما كان من إنشاء جماعة المصلحين في عهد الأستاذ الإمام رحمه الله لمدرسة دار الدعوة والإرشاد ، فقد كانت الغاية منها تخريج معلمين يعظون الشعب ويرشدونه مستقلين عن سلطة الحكومة والقيود الرسمية ، فأماتها البخل من ناحية وخمود الهمم وضعف الثبات من ناحية أخري ، ولسنا نريد بذلك أن نتعرض ـ لأنها حققت الغاية أو لم تحقق ـ فليس هذا من قصدنا على أنها لم تطل مدتها حتى يتمكن الباحث من الحكم ، ولكن الذي نريد أن نصل إليه أن فكرة الاستقلال بالتعليم عن النظام الحكومي فكرة خامرت الكثيرين من زعماء الإصلاح فليس بدعا أن نعرض لها اليوم وقد تكون الظروف الآن أشد ملاءمة لهذه الغاية من ذي قبل..
فهل تتمكن جمعيات الشبان المسلمين من سلوك هذا السبيل؟ عجزت ألا تحاول فكرة تخصيص المعلمين وطلبة المعلمين والوعاظ بفصول يتزودون فيها بالعلوم الإسلامية التي تعينهم على تحقيق الغاية؟ وهل تعجز مع ذلك عن السعي لدى ولاة الأمور في إصلاح مناهج التعليم وبخاصة في مصر لما فيها من حركة الإصلاح العلمي السانحة؟
نظنها لا تعجز عن هذين ، ونأمل أن نراها في سبيل تحقيقها قريبا..
كل ما تقدم سقناه بمناسبة وجوب إصلاح المعلم الذي هو نصف المدرسة .. أما إصلاح المنهج وهو النصف الثاني فيجب أن يقرن بتوفير الحصص الكافية لفروع الدين من الفقه وأسراره والعقائد وأدلتها والتاريخ الإسلامي والسيرة واللغة العربية إذ هي وسيلة فهم القرآن وتدبره وهو أساس هذا الدين وروحه وإظهار العناية بهذه المادة عناية ظاهرة وجعلها مادة أساسية.
فإذا كانت المدارس مستقلة عن المدارس الحكومية أضيف إلى هذا المواد مواد المنهج الحكومي حتى تحقق بذلك أمل التلميذ في التقدم إلى الشهادات الرسمية ، ويكون مثلها في ذلك مثل مدارس التبشير التي تباري مدارس الحكومة في العلوم الرسمية بعد حذف مالا لزوم له منها ، وتحقق مع هذا غايتها الدينية بإجبار التلاميذ على دراسة الدين والقيام بشعائره…
ولما كان للروح العام أبلغ الأثر في نفس الطفل وتكوينه الخلقي ولا سيما في المدارس الابتدائية والسنوات الأولى من الثانوي حيث يغلب على الناشئ التقليد ، وجب أن يكون هذا الروح دينيا فاضلا ، ووسائل ذلك: أن يكون الاهتمام بالدين واحترامه وتشجيع من يبدو عليهم حبه والعمل به شعار كل موظفي المدرسة من إداريين وفنيين ، وإشعار التلاميذ بذلك , وإلزامهم أداء الفروض بدار المدرسة , وإعداد مسجد خاص بهم تقام به الشعائر كالأذان والإقامة يقوم بها التلاميذ أنفسهم ، ويقابلها أساتذتهم بالامتثال والاحترام والخشوع ، فيشب التلميذ على ذلك ويقلدهم فيه.
بعد هذا يمكننا أن نتصور المدرسة التي ننشدها في التعليم الأولي أو الابتدائي مدرسة كاملة المعدات على طراز أبنية المدارس الأميرية ، يلحق بها مسجد يتناسب مع عددها وأهميتها وظروفها الخاصة ، تدرس فيها المواد الرسمية زائدا عليها الدين وتوابعه يقوم بتدريس ذلك معلم ومدير على قدم في الدين والأخلاق وضلاعة في علومها والتمسك بآدابها يسودها روح عام ديني فاضل..
ومثل ذلك قل في المدارس الثانوية والعالية والفنية والصناعية ونحوها مع مراعاة الغاية الأخرى في كل..
أما الذي يقوم بالإشراف العام على هذه المدارس فهي جمعيات الشبان المسلمين طبعا ، والحذر من أن تتحول الغاية تدريجا ويتغلب العرف والتيار العادي على هذه المدارس المنشأة لغاية خاصة فتجاري غيرها ويضيع المقصد من إنشائها..
فهذه “الجمعية الخيرية الإسلامية” كان القصد الأول من إنشاء مدارسها تحقيق هذه الغاية بنصها وبتوالي الأزمان والإدارات أصبحت الآن ولا فرق بينها وبين المدارس الحكومية واندثر ذلك المقصد الشريف الذي من أجله أنشئت هذه المدارس وله ألفت الجمعية وعليه أسست ، والزمن قلّب ، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين..
وأما إذا لم تتمكن الجمعية من هذا فلا أقل من أن تبذل الجهد لدى الحكومات وجمعيات التعليم في تحقيق هذه الوسائل بعضها أو كلها على قدر الممكن ، ويكون ذلك جهد المقل وحيلة العاجز والأمر بيد الله ويسرنا أن نرى فرع الإسكندرية يعلن عن فتح فصول جديدة للتلاميذ في عطلة الصيف ونرجو أن يكون المهم لديه انتهاز هذه الفرصة في تشجيع الروح الدينية.
وكذلك أنشأ بعض فروع فلسطين مكاتب ومدارس للتعليم الديني فكانت خطوة نرجو أن تستمر في طريق الرقي والكثرة والتشجيع..
البيئـة
وهي العامل الثالث من عوامل التربية ويجب أن نعني بشأنها لما لها من عظيم الأثر في نفس الطفل وخلقه كذلك , وتشمل البيئة:
1- الإخوان والأصدقاء:
يجب أن نرشد الناشئ إلى مصاحبة الأخيار ونبين له فضيلة ذلك ونزعه ، ونحول بينه وبين مخالطة الأشرار مع شرح ما يستهدف له من الخطر إذا صاحبهم وعرف بصداقتهم ، وعلينا أن نفهم الآباء ذلك بالنشرات والمحاضرات والإرشادات وبكل وسيلة ممكنة .. وقد أرشد الرسول صلي الله عليه وسلم إلي ذلك بحديثه المشهور: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد: لا يعدمك من صاحب المسك إما أن تشتريه أو تجد ريحه وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحا خبيثة).
كما أرشد إليها القرآن الكريم في قول الله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف:28) .
2- الأندية والمحال العمومية:
وهذه لها عظيم الأثر في نفس الناشئ ، فيجب أن يُعرّف منها بكل ما يرشد إلي خلق ديني , ويبعد عن كل ما يضم مفاسد الدين والخلق كالمسارح الهازلة والمراقص الخليعة والمقاهي الموبوءة ، ويرصد إلى أمثال أندية الجمعيات الإسلامية ..
ولنادي جمعية الشبان في ذلك أثر يذكر فيشكر بما أنه يحول بين الشبان وبين مجالس السوء ويزودهم بما يسمعون من عظات نافعة ومحاضرات قيمة ومذاكرات دقيقة ومسامرات رقيقة..
3- الاحتفالات الدينية:
يجب أن يصحب الناشئ ولي أمره إلى محال هذه الاحتفالات البريئة التي تتجلى فيها مشاهد جلال الإسلام وروعته كالجمعة والعيدين وحفل رأس السنة وذكرى الهجرة والمولد النبوي بدور الجمعيات الإسلامية لا بتلك المهازل التي تمثل باسم الدين في الموالد ونحوها..
خاتمـة
وبعد يا سادتي فهذه عوامل التربية أو أكثرها وأهمها عالجت في هذه الكلمة بعض وجوه إصلاحها ، وقد رأينا أن جمعياتنا المحبوبة قد قامت ببعض الواجب في سلوك هذا الطريق ، إلا أن المهمة شاقة وفي حاجة إلى جهود متواصلة ، وإلى تضحية وثبات وتقدير ، لما يحيط بنا من ظروف تفرض علينا الدأب في العمل ، فأتقدم إلى حضرتكم بالرجاء الكبير أن نكون جميعا أعوانا عاملين على تحقيق هذه الفكرة النبيلة السامية فكرة تهذيب النشء وتربيته تربية إسلامية وأن ننفذ ذلك في كل من لنا عليهم ولاية..
والله حسبنا وهو نعم الوكيل
حسـن البنـّـا
غرة رمضان 1355 هـ
أضف تعليقك