بقلم: سليم عزوز
ابتعدْ عن المُحبطين، ولن تجدَ في العنوانِ أيَّ غرابةٍ، ففي الواقعِ لدينا طبقةٌ صارت معوِّقةً لأيِ تفكير يخصُ المستقبلَ، إنّهم خيولُنا التي لا تصهلُ، لا يمنحُها قيمةً أنّها كانت من قبلُ خيولَ معاركَ، أو هكذا بدَت!
الظاهرُ من المشهدِ المصريِ أنه المواتُ، فالحكمُ يبدو وقد دانَ للسيسي، وتلخصَ طموحُ معارضين من تياراتٍ مختلفةٍ في الشعارِ الأثير، «اعطونا إخواننا المعتقلين، وسوف نترك لكم الجَمَل بما حَمَل». لكن من بيدِه «عقدةُ الأمر»، لا يأمنُ على حكمِه إن فعلَ هذا، ولعله الوحيدُ الذي يدركُ أن حكمَه في خطرٍ، وأنه ليس مستقرّاً، وإن كان يتصرّفُ على طريقةِ فرعونَ، عندما تأكدَ أن نهايتَه ستكون على يدِ طفلٍ سيولدُ حديثاً، ومع حذرِه، فقد ربّى موسى في بيتِه، فساعةُ القدرِ يعمى البصرُ، كما يقولون!
عندما قرأتُ مقالَ الناشطِ السياسي علاء عبد الفتاح، الذي يروي فيه تجرِبةَ السِجنِ وقسوتها، التي تعرضَ لها، ازدادَ إيماني، بأن معركةَ عبد الفتاح السيسي مع كلِّ مَن شارك في ثورةِ يناير، فهو يرى الخطرَ في هؤلاء، حتى وإن مثّلوا لانقلابِه العسكريِ غطاءً مدنياً، والكاتب لتجربتِه وقسوتِها هو واحدٌ من هؤلاء، والذي لم يقبل السيسي في شأنِه وشأنِ إخوانِه وساطةَ كاتبٍ بحجمِ محمد حسنين هيكل، وقدرُه محفوظٌ عند السيسي باعتبارهِ رحمه الله «عرّاب الانقلاب»!
قائدُ الانقلابِ العسكري، يخشى الثورةَ، لكنه يُخطئُ العنوانَ، والقوى السياسيةُ الأخرى تريدُ الثورةَ، لكنها تُخطئُ العنوانَ أيضاً.
وقد عقم اجتهادُ الطرفَين، وتوقفَ نموُهما العقليُ عند ثورةِ يناير، ولهذا فإن عبد الفتاح السيسي يرى أنه إذا نجحَ في قمعِ مَن شاركوا فيها، فإنه قد ضمنَ الاستمرارَ في السلطةِ، وخصومه يرون أنّهم إذا نجحوا في العودةِ إلى تجمّعِ يناير 2011، فإنهم قادرون على القيامِ بثورةٍ جديدةٍ، واستكمالِ ثورةٍ أفشلتها الثورةُ المضادةُ في 3 يوليو 2013، فيبدّدون وقتاً طويلاً في استدعاءِ التاريخِ، وعمّن كان فيهم أسبقَ بالخيانةِ، لندخلَ في جدلٍ عقيمٍ، تقودُه عقولٌ تافهةٌ، ويمثل تعبيراً عن إراداتٍ خائرةٍ، تبحثُ عن شمّاعةٍ تبررُ القعودَ والتولّي يومَ الزحفِ، فيدفعُ هذا إلى الإحساسِ بالفشلِ، مع أنه كاشفٌ عنه وليس مُنشئاً له، ومن جديدٍ يبدأُ الحديثُ عن الاصطفافِ، ويتحطّمُ على صخرةِ المماحكاتِ، من خيولِنا التي ما عادت تصهل!
وفي المقابلِ يبدو عبد الفتاح السيسي قادراً بالآلةِ العسكريةِ على فرضِ هيمنتِه، وهو يتعاملُ مع القوى السياسيةِ، على قواعدِ التسليةِ، فيعتقلُ الإخوانَ، ثم يعتقلُ شبابَ القوى المدنيةِ، ثم تمتدُ يدُه لقادةِ التيارِ المدني، وممن كانوا يعتقدون أنّهم أكبرُ من أنْ يبطشَ بهم، فلمّا فعل بدا الأمرُ مفاجأةً وقد عقدت الدهشةُ ألسنتَهم، فمن خرجَ من السجنِ، التزم الصمتَ، ومن نجّاه اللهُ منه، ابتعدَ عن المعارضةِ المباشرةِ، وصارت الرسائلُ التي تأتِي من المعتقلاتِ والبحثُ عن صفقةٍ للخروج، تعززُ الإحساسَ بأن الثورةَ وعودتَها هي شعاراتٌ تنتمي إلى أساطيرِ الأوّلين، لأننا والسيسي صرنا أسرى (لخلطة يناير 2011)، وإزاءَ هذا اليأسِ، لم يعد أحدٌ يملكُ القدرةَ على التفكيرِ أبعدَ من اللحظةِ الراهنةِ، وهي لحظةٌ بائسةٌ ومحبطةٌ، وصار من الترفِ طرحُ سؤال ماذا لو استيقظنا من النومِ ذاتَ صباحٍ، فكان العاجلُ هو وفاةَ عبد الفتاح السيسي، وأن السرَّ الإلهيَ خرج؟، وكأنه حصل على وعدٍ إلهيٍ بألا يجوعَ فيها ولا يعْرَى!
وعدمُ تصورِ رحيلِ السيسي ولو في الأحلامِ، من شأنِه أن يعيدَنا من جديدٍ إلى مربعِ ما بعد الثورةِ، فتسقطُ السلطةُ من جديدٍ في حجرِ المجلسِ العسكريِ، ويذهبُ القادةُ السياسيون إلى هناك مُقصرّين ومُحلقين، بدونِ رؤيةٍ أو عزيمةٍ، وفي المرةِ الأولى ذهبوا بضعفِهم بعد ثورةٍ، أسقطت مبارك، لكن إذا حدثَ هذا الآنَ فسيذهبون وهم منهارون، ليكونوا يومئِذٍ بلا قيمةٍ، أو معنى!
وقد كنت أطرحُ على مَن لا يريدون تفكيراً خارجَ الشرعيةِ بمعناها الواضحِ، ماذا لو حدثَ ومات الرئيسُ محمد مرسي ما هي خُطتُهم البديلةُ؟ فبدا السؤالُ كما لو كان ترفاً، وها هم الآن يبدون بلا خُطةٍ أو موضوعٍ رغم مرورِ كلِّ هذا الوقتِ على وفاةِ الرئيس، وهي الحالةُ التي أفرزت السؤالَ عن جدوى الصمودِ في السجونِ، وليس هناك هدفٌ الآنَ من وجودِ كلِ هذه الأعدادِ بداخلِه.. إنهم يدافعون عن قضيةٍ.. حسناً ما هي القضيةُ؟، لاحظْ أن البعضَ كان يقولُ إنه ليس معنياً بثورةِ يناير، فما يعنيه هو شرعيةُ مرسي فقط.
واللافتُ أنه مع وفاةِ الرئيسِ محمد مرسي، وفقدانِ كثيرين مبررَ وجودِهم في ساحةِ النضالِ، فإن السيسي لا يشعرُ بالأمانِ، مع سقوطِ من لخصوا كلَّ قضيتِهم في عودةِ الرئيسِ محمد مرسي، وكذلك الذين لخصوا كلَّ نضالِهم في عدم عودتِه، وكأنّهم بذلك وضعُوا «العقدة في المنشار»!
يدركُ قائدُ الانقلابِ العسكريِ، أن النارَ تحت الرمادِ، لكن تبدو مشكلتُه في أنه حدّد الاتجاهَ الخطأَ للضربةِ التي ستصيبُه، ولخصها في تجمّعِ يناير، فيركزُ على تسديدِ ضرباتٍ استباقيةٍ له ليجهزَ عليهم تماماً، ومن يطّلعُ على مقالِ علاء عبد الفتاح يقفُ على أن الهدفَ هو قطعُ دابرِ القومِ الذين شاركوا في ثورةِ يناير!
ومشكلةُ الجنرال، أنه لا يدركُ أن تجمّعَ يناير بكلِّ أطيافِه انتهى، وصار مَن شاركوا في هذه الثورةِ، هم تاريخاً، أكثر منهم واقعاً، وأنهم انتهوا وإن لم تصدر لهم شهادةُ وفاةٍ، ولا أستثني من ذلك نفسي، فجيلٌ واحدٌ لا يمكنه القيامُ بثورتَين، ثم إننا جيلٌ مهزومٌ، كجيلِ هزيمةِ يونيو 1967، الذي لم يتحرر من هزيمتِه ولو بانتصارِ أكتوبر، وذهب به إحساسُه بالهزيمةِ إلى الترويجِ للتطبيعِ مع العدوِّ!
الدرسان السودانيُ والجزائريُ يؤكّدان على هذا المعنى، وإذا استبعدنا الثورةَ هنا وهناك، فلأننا كنا ننظرُ للقوى السياسيةِ المهزومةِ، التي بطشَ بها الحكمُ العسكريُ، ثم قرّبها، وكان أهلُ الحكم في الخرطوم والجزائر ينظرون لهذا الضعفِ المطاع، فيشعرون بالأمانِ، لدرجةِ الإصرارِ على ترشيحِ ميّتٍ هنا، والتمسكِ بفاشلٍ ليس لديه ما يقدمُه للناس، هناك!
لكنّ جيلاً جديداً، وقوى سياسيةً ناهضةً ليست جزءاً من المعادلةِ السابقة، هي التي قامت بالثورةِ لتنهيَ حكمَ بوتفليقة، وتدفعَ بالبشيرِ إلى السِجن. مَن كان يتصورُ هذا قبلَ الحراكِ الشعبيِ بيومٍ واحدٍ في الجزائر والخرطوم؟!
وفي مصرَ، بدأت الدائرةُ المحيطةُ بالحكمِ تتململُ ويصيبُها الضررُ الفادحُ من جراءِ وجودِ السيسي، وفي أسبوعٍ واحدٍ عبّرَ عن هذا اثنان من رجالِ الأعمال كل بطريقتِه، ومن السخريةِ كما وردَ في تغريدة لنجيب ساويرس، إلى فيديو للمقاولِ والفنانِ محمد علي، ما يكشفُ عن أزمةٍ حقيقيةٍ، لقد فقَدَ قائدُ الانقلابِ العسكريِ الحماسَ له ولحكمِه في هذه الدائرةِ، ناهيك عن غضبِ الشعبِ بشكلٍ عام، والأمرُ يتوقفُ على شرارةٍ، لن يطلقَها أحدٌ من ثوارِ يناير، وقد يتردّدون في المشاركةِ في الثورةِ بسببِ التجرِبةِ القاسيةِ التي مرّوا بها!
ولن تكونَ هذه المرةَ ثورةً طيبةً ووديعةً كثورةِ يناير، ولن يميزَ ثوارُها بينَنا وبينَ الطغمةِ الحاكمةِ باعتبارنا أصحابَ سجلٍ في الفشلِ الذي أوردَ ثورةَ الشعبِ موردَ التهلكة.
وفي تقديري أن مصرَ لا تحتملُ ثورةً قاسيةً، لذا فمن الأفضلِ التحوّلُ الديمقراطيُ الهادئُ، وهو أمرٌ من المستحيلِ أن يتمَّ في وجودِ السيسي.
إنّها المعادلةُ الصعبةُ.
أضف تعليقك