• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: أسامة جاويش

في كثير من دول العالم الناطقة باللغة الإنجليزية، أصبحت كلمة "أورويليان" نوعا من الإسقاط الذي يستخدم لوصف ممارسات أنظمة بعينها، المصطلح يعود إلى رواية الكاتب جورج أورويل ١٩٨٤، التي تحكي عن الأخ الكبير الذي يراك ويراقب كل خطواتك وكلماتك وأنفاسك أيضا. بالنسبة لأولئك الموجودين في الغرب، لا تزال رواية أورويل التحذيرية حول تجاوز الحكومات والأنظمة القمعية، وصفا لما يمكن أن يكون في المستقبل، فقد أصبحت رواية صالحة لكل زمان ومكان.

في مصر، على سبيل المثال كان الثالث من يوليو ٢٠١٣ بداية لتجسيد أسطورة الأخ الكبير، الذي يراقب الجميع ويسعى للسيطرة على البلاد بوزاراته الأربع، فوزارة الحقيقة في رواية أورويل التي تهتم بالأخبار والتعليم، وحقيقتها أنها تشوه الحقائق وتخترع الأكاذيب، خلق السيسي بدلا منها مدينة الإنتاج الإعلامي بأذرعها التي صنعها وجندها هو ورجاله، وكنت شاهدا على ذلك أثناء تقديمي حلقة سابقة، فترة عملي في فضائية "مكملين"، إذ أذعت تسريبا صوتيا من داخل مكتب السيسي الذي كان يستعد للترشيح للرئاسة المصرية آنذاك.

وعرف إعلاميا بتسريب الأذرع الإعلامية يملي فيه اللواء عباس كامل، مدير مكتب السيسي السابق ومدير المخابرات العامة المصرية الحالي، تعليمات يتم نقلها بالحرف للمذيعين داخل مدينة الإنتاج الإعلامي ليتحدثوا بها للجمهور المصري في كل ليلة. وقد بات هذا هو حال الإعلام المصري للأسف، حيث يقوم المنتجون التلفزيونيون بممارسة الرقابة الذاتية أو الإشادة بالنظام خوفًا من الانتقام.

ومن لم يقم بهذه الرقابة الذاتية يتم وضعه تحت إشراف ضباط من الشؤون المعنوية أو المخابرات الحربية من أجل ضمان الالتزام بالتعليمات وفي بلد يوجد فيه أكثر من ربع السكان أميون، هذا أمر خطير.

ثاني هذه الوزارات في دولة أورويل التخيلية كانت وزارة الحب، التي تعمل بالأساس على نشر الكراهية فهناك احتفال رسمي أمرت به تلك الوزارة المرعبة اسمه دقيقتي الكراهية، وفي مصر استطاع السيسي أن يطلق يد جهاز الشؤون المعنوية في البلاد ليتحكم فيما يخرج ويقال للرأي العام وليبث خطاب كراهية لم يمر على الشعب المصري خطاب مماثل له قبل ذلك فأصبح قطاع من المصريين غارقا في دمائه في ميدان رابعة، وقطاع آخر يغني ويرقص على أنغام "تسلم الأيادي" فوق دماء الآخرين، وزارة الحب مع السيسي أوصلت المصريين أن يتغنوا بأغنية مطلعها "احنا شعب وانتوا شعب لينا رب وليكوا رب". 

وزارة أخرى استنسخها السيسي ليوطد أركان حكمه العسكري فاستطاع أن يستبدل وزارة الوفرة في رواية أورويل بالقوات المسلحة المصرية التي استطاعت الاستحواذ على أكثر من ستين بالمائة من الاقتصاد المصري، وأسند إليها السيسي كافة العقود والمشروعات الكبيرة في مصر.

واستطاع كما وصف أورويل أن يقوم بتحجيم موارد الشعب وإفقاره فارتفعت نسبة الفقراء في مصر إلى ما يقارب الستين بالمائة، وفقا لآخر تقرير للبنك الدولي.

أما فيما يتعلق بوزارة السلام فمصر مع السيسي لم تخض أي حرب حقيقية ومع ذلك أصبحت من أكبر مستوردي السلاح في العالم في السنوات الأخيرة، وفقا لتقرير صادر عن معهد ستوكهولم لبحوث السلام في ٢٠١٨، ذكر أن مصر حلت ثالثا في ترتيب الدول الأكثر استيرادا للسلاح في العالم. 

"الأخ الكبير يراقبك".. هذه الجملة المرعبة التي كان يشاهدها مواطنو أوقيانا في دولة أورويل التخيلية أصبحت واقعا لدى المصريين، فالسيسي يراقبك وإن لم يكن هو بشخصه فهناك الشرطة والمخبرين والبلطجية وهناك الجيش والمخابرات الحربية والعامة، حتى لو هتفت داخل ستاد القاهرة في بطولة إفريقيا الأخيرة من أجل محمد أبو تريكة فستراقبك طائرات الدرون لتلتقط لك صورا ويتم إلقاء القبض عليك فورا.

وهناك الإعلام الذي يطلب منك أن تبلغ عن جارك إن شككت في انتمائه لجماعة بعينها، بل تعدى الأمر أكثر من ذلك فقد وصل الحال ببعض المصريين في أيام الانقلاب الأولى من الخوف أن يبلغوا السلطات عن أبنائهم ومشاركتهم في التظاهرات، وشهدت البلاد نوعًا من الاختناق البطيء والمتواصل الذي لا يمكن أن يتدفق إلا من جنون العظمة الذي أصاب السيسي من خلال قوانين أكثر صرامة من أي وقت مضى، وقمع متزايد عن أي وقت مضى وعواقب أخطر من أي وقت مضى لأولئك الذين يجرؤون على تحدي الدولة. ما دفع منظمة العفو الدولية أن تصف مصر بأنها "سجن في الهواء الطلق".

ومن السمات الخبيثة بشكل خاص لمصر السيسي (كما هو الحال في أوقيانوسيا للحزب) أن الدولة القمعية تقدم نفسها وكأنها هي الأمل الوحيد في الخلاص، ويمكن لأولئك الذين يرغبون في الهروب من ظروفهم وتحسين أوضاعهم فعل ذلك فقط من خلال تعميق علاقتهم مع النظام لأنه فقط أجهزة الدولة من -رئيس وحكومة وجيش ووسائل إعلام- هي فقط التي تجلب لمصر التقدم والازدهار وهذا يظهر جليا في خطابات السيسي المستمرة عن برامجه للإصلاح الاقتصادي. وكيف أنه نجح بجلب الازدهار لمصر، وأن ما أنجزه في عامين لم يكن ليحدث في خمسين سنة.

بنى السيسي إمبراطورية الأكاذيب الخاصة به وجعل من الإرهاب عدوا وهميا يستمد منه بقاءه وأصبح الاختفاء القسري والتعذيب هو ضريبة المعارضة، واختفت حرية التعبير وتم تجريم التجمع أو التظاهر وأصبح شعار السيسي هو نفسه شعار الأخ الأكبر مع شعبه فباتت الحرب هي سلام، والحرية هي العبودية، والجهل هو القوة.

أضف تعليقك