• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم : سليم عزوز

بإعلان تسريح مئة وخمسين فردا، من العاملين في القناة الجديدة «دي إم سي نيوز»، نكون أمام قرار كاشف وليس منشئا، بإعلان وفاة الإعلام المصري، وإلغاء مهنة الصحفي، والإعلامي، وما يتصل بهما بصلة!

أما أنه قرار كاشف، فلأنه ليس أكثر من استخراج شهادة وفاة لميت، لا يعني عدم صدورها أنه على قيد الحياة، وقد بدأ الإعلان عن عملية الوفاة مبكرا، وفي اللحظة التي كان يتم فيها إعلان الانقلاب عن نفسه، إذ ذهبت قوات الأمن إلى مدينة الإنتاج الإعلامي، وداهمت أستوديوهات بعض القنوات، التي تمثل المعارضة المحتملة لهذا الانقلاب واعتقال الإعلاميين والضيوف على حد سواء، كما تمت خارجها مداهمة مكتب قناة الجزيرة، وقناة الجزيرة مباشر، وتم القبض على الجناة!

عندئذ قلت إن الانقلاب أعلن مبكراً عن وجهه القبيح، فليس في الأمر تحرك من الجيش استجابة لإرادة الجماهير، فالجماهير لم تطالب بإغلاق المحطات التلفزيونية، وتكميم الأفواه، وثورة يناير نفسها، لم تعادي الإعلام ولم تطالب بإغلاقه رغم أنه من مخلفات العصر البائد، فالإجراء الجديد مرتبط بحكم العسكر، وقلت إنها خطوة لها ما بعدها فالاستبداد كالإسبراي تطلقه في اتجاه، فيصل إلى كل اتجاه، وأنه يسعدك أن يكون أداة في يدك للفتك بخصمك، لكنه حتماً سيصل إليك!

كانت تجربة حركة الضباط في 1952، ماثلة في ذهني، ويروي المدير العام لجريدة «المصري»، الدكتور السيد أبو النجا في مذكراته، كيف أنه في اليوم الأول للحركة كان هناك مجموعة من الضباط على رأسهم الصاغ جمال عبد الناصر، يحاصرون مقر الجريدة التي هي لسان حال حزب الوفد، ويطلبون أن تصدر عدد اليوم التالي ترحيباً بالحركة المباركة، وكانت خطوة لها ما بعدها، وكاشفة عن اهتمام الضباط بفكرة السيطرة على الإعلام لشعورهم بخطورته!

وبعد ذلك كان القرار بإغلاق جريدة «المصري»، ثم وبعد ثمانية عشر عاما من الانقلاب، كان قانون تأميم الصحافة، الذي انتزع المؤسسات الصحفية من أصحابها لملكية السلطة تحت عناوين زائفة عن أن المالك هو «الاتحاد القومي»، الذي تحول بعد ذلك إلى «الاتحاد الاشتراكي»، وهو انتقال في جوهره للحاكم الفرد، بيد أن الأوضاع اختلفت مع حركة الضابط عبد الفتاح السيسي، الذي لم يعرف سوى المطاردة المبكرة، والإغلاق السريع، ثم انتقل بعد هذا يصفي إعلامه، على النحو الذي توقعته، فهذا عسكري متشبع بروح الوحدة العسكرية، فلا يجد الأمان إلا في الهدوء، ولا يشعر بالسكينة إلا في المقابر، حيث الصمت المطبق، لأن الأصوات الكثيرة ولو كانت مؤيدة تزعجه حد القلق.

لقد اندفع الجنرال يسيطر على الإعلام لكي تؤول ملكيته إلى الأجهزة الأمنية ومن خلال مالك وهمي هو شركات أنشئت خصيصا من أجل ذلك، وملاك صوريين على الورق، نيابة عن المالك الحقيقي وهو شخص عبد الفتاح السيسي، ثم بدأ يغلق البرامج، ويسرح الإعلاميين، ولم يعد من الجيل القديم، سوى عدد قليل منهم، وإذ أطلق قناة «دي إم سي»، فقد تم التعامل معها في الوسط الإعلامي، على أنها فتح في مجال الإعلام، فنفروا خفافا، ونفروا جميعا.

وإذا كان اسمها جرى اختصاره بدمج حروفها، «دمس» في أن كثيرين كانوا يطلقون عليه اسم «المالك»: «قناة المخابرات»، وعندما أطلقت القناة العامة، كان التبشير بقناة إخبارية عملاقة، تنافس قناة «الجزيرة»، وبدا واضحاً أنه لا تنقصها الإمكانيات المادية، فأستوديوهاتها تناطح أستوديوهات القنوات الكبرى في العالم، هل أكون مبالغاً إذا قلت إنها تتفوق على أستوديوهات قناة الجزيرة؟!

كانت الأنباء عن أجور مرتفعة تدفع للعاملين فيها، تمثل أملاً للبعض في الالتحاق بها في ظروف معيشية ضاغطة، وفي ظل عجز الرواتب في القنوات ووسائل الإعلام الأخرى عن الإيفاء بمتطلبات الحياة، حتى صار الأمل ينحصر في فرصة عمل للخارج أو الالتحاق بقناة «دي إم سي» التي هي للموعودين!

وقد تحدث السيسي عن قناة إخبارية جديدة، بالمواصفات العالمية، ولأنه دائماً يكون كلامه مبتوراً وجمله ناقصة، فقد ذهب البعض لضرب الودع، عن المؤسسة الإعلامية التي ستنطلق منها هذه القناة الإخبارية الكبيرة، وإذ قال مسؤول بالتلفزيون المصري، إن القناة من الطبيعي أن تنطلق من التلفزيون الرسمي، فإذا الإجماع يكاد يكون منعقداً بأن السيسي يقصد القناة الإخبارية التي ستنطلق من «دي إم سي»، وربما وجد حرجاً أن يكمل جملته، ويستكمل كلامه، لأنه هنا سيكون قد اعترف في حالة التوضيح بأن القناة مملوكة لفضائية خاصة، من المفروض أنها مملوكة لشركة على الورق وليس للدولة المصرية!

للاهتمام الذي توليه دولة السيسي بقناة «دي إم سي» تردد أنها ستكون قناة السلطة، تمهيداً لإغلاق التلفزيون المصري الذي صار كلا على مولاه، لاسيما أنه يضم جيشا من الموظفين، ثم إن مقره «مبنى ماسبيرو» هو ضمن المنطقة التي بيعت للإمارات وبدأ بالفعل تنفيذ إخلائها مرحلياً منذ سنوات، ومنذ ثلاث سنوات بدأ الاستعداد لقناة «دي إم سي نيوز»، وبعد إهدار ملايين الجنيهات كمرتبات، ومعدات، واستوديوهات لتكون قناة وفق المواصفات العالمية كما بشر عبد الفتاح السيسي، ولكي تسقط قناة الجزيرة من عرشها كما بشرت أذرعه الإعلامية، تم الاستغناء عن خدمة العاملين فيها، وتسريحهم، فيزداد عدد الصحفيين والإعلاميين المتعطلين بعد إلغاء مهنة الصحافة، وكان إلغاء الفكرة بجرة قلم، أو جرة بيادة لا فرق!

وبعيداً عن جنة الإعلام من حيث الرواتب المرتفعة نسبياً، فقد سألت عن رواتب الزملاء في وسائل الإعلام التي آلت ملكيتها لصالح الحاكم الفرد، فقيل هذا لم يستفد منه سوى القيادة العليا في كل وسيلة إعلامية، في حين أن أوضاع الذين من دونها ازدادت بؤسا!

فإذا انتقلنا إلى الصحافة الورقية في مصر، فإنه من المحزن أن يكون التوزيع يومياً في حدود مئتي ألف نسخة، في بلد عرفت الصحف التي يصل توزيع الواحدة منها إلى مليون نسخة يومياً، ولا يمكن اعتبار هذا بسبب الصحافة الجديدة، فالمواقع الإلكترونية في مصر التابعة لهذه الصحف لا يلتفت إليها أحد، وكل الكلام الذي يقال عن أعداد المتابعين للمواقع، يدخل في باب النصب.

ثم إن هذا التوزيع على قلته، ليس توزيعاً حقيقياً، لأنه في معظمه عبارة عن اشتراكات لصالح المؤسسات القومية تستمر بسيف الحياء، ثم إن مزارعي الموز يستخدمون ورق الصحف للإسراع في إنضاجه.

لقد ماتت الصحافة المصرية، ولا عزاء للسيدات.

 

أضف تعليقك