• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: عامر شماخ

ساءني الجدل غير المثمر بين أشقاء (رابعة) على مواقع التواصل الاجتماعى، فى ذكرى مرور ست سنوات على المذبحة؛ فهناك طرف يتصرف بعفوية مع المناسبة، يجترّ الأحزان ويبكى لفقد الأحبة، ويصف مشاهد الترويع التي ارتكبها الجناة ضد إخوتهم الأطهار. والطرف الآخر يعيب عليه هذه (الملطمة!) أو(البكائية!) -كما أسموها؛ مؤكدًا أن هذا لا يفيد القضية، بل يضعفها، بعدما تتحول إلى (إدمان للمظلومية!) ينتج عنه بقاؤنا فى دور (المفعول به) وهو راضٍ سعيد.

والطرفان –فى نظرى- يستحقان النصح، خصوصًا الطرف الثانى الرافض للبكاء واجترار الأحزان؛ فإنه هو من خلق الجدل، وأوغر الصدور، والأمر أبسط من أن نخلق حوله جدلاً؛ بل الواجب أن نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، وأن يمسك كلانا بخنَّاق القاتل؛ كلٌ على شاكلته، لا أن نطلق قذائفنا (الفيسبوكية) على أحبة لنا انكووا بنار الغدر وسالت دماء ذويهم وهم عاجزون عن القصاص والثأر.

والبكاء –كما هو معلوم- ليس منهيًّا عنه لأصحاب الدماء ذوى القلوب الموجوعة؛ فإن النبى -صلى الله عليه وسلم- لما رجع من أُحد جعلت نساء الأنصار يبكين على من قُتل من أزواجهن، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (ولكن حمزة لا بواكى له)، فبلغ ذلك نساء الأنصار، فبكين لحمزة.

وإذا كان الطرف الذى ينهى عن البكاء يعتبر الحديث عن القضية والتذكير بها بوسائل التذكير المختلفة (ملطمة) فقد أخطأ ثانيًا؛ فإن القضايا تموت بعدم التذكير بها، وينساها الناس إن غفل عنها أصحابها، ولا يفيد ذلك إلا الخصوم. بل إن الحرب الآن إعلامية، الرابح فيها من يغزو الأجهزة الذكية للآخرين ويقنعهم برأيه ويكسب تعاطفهم مع قضيته، وقضيتنا رابحة –لا شك فى ذلك- غير أنها بحاجة إلى من ينقلها إلى هؤلاء نقلًا يليق بقدرها، ولا أرى مانعًا أن تُستخدم العواطف فى هذا النقل، وأبحاث الإعلام متفقة على أن معظم القضايا التى حازت على اهتمام المتلقين كانت بسبب عاطفية الرسالة الموجهة إليهم.

إنه بعد نحو ثمانين سنة من محرقة اليهود على يد النازى الألمانى بدءًا من عام (1941 حتى 1945م) –والتى اختُلف فى تقديراتها- استطاع ذوو الضحايا صنع هالة مقدسة حول القضية، ولا ينكر أحد أن كثيرًا من المكاسب العظيمة التى جناها اليهود فيما بعد كانت بسبب دأبهم فى العويل على ضحاياهم، حتى كسبوا تعاطف الأفراد والدول، وحتى سُنّت قوانين أممية تعاقب من يشكك فى (الهولوكست) أو يتنمر لـ(السامية).

إننا بحاجة إلى كسب مزيد من المتعاطفين، بتوصيل الحقائق إليهم، وتفنيد شائعات وأكاذيب المجرمين، وسوْق الأدلة على أن القضية إنسانية فى المقام الأول، ليست إخوانية، وليست إسلامية، والواقع يؤكد ذلك؛ فإن الدماء التى سالت دماء مصرية، تشمل الإسلامى كما تشمل غيره. أما الظهور بمظهر المظلوم فلا عيب فيه؛ فإن صاحب الحق لا يستحى من تبيين حقه، وسرد مظلمته، بل الاستطراد فيها، ولنا فى جعفر –رضى الله عنه- المثل؛ إذ استطاع إقناع النجاشى بعدالة قضيته بكلمات لا تخلو من مخاطبة إنسانيته؛ فانحاز إليه الرجل، ولم يأبه لأصدقائه العرب الذين أرادوا استلام عم النبى وإخوانه الفارّين إلى الحبشة، وقد رشوه وقدموا له الهدايا التى يحبها فردها إليهم.

وللطرف الأول الباكى أقول: ليس من الإنصاف أن يظل الباكى فى بكائه دون عمل؛ لأن هذا يقود إلى اليأس، واليأس ليس من شيم المؤمنين، بل شيمتهم الصبر الجميل، والسلوى عن الأحزان، والعمل الدءوب، ثم النظر إلى السماء رجاء العون والتوفيق.

لا خلاف على أن هناك تقصيرًا ليس بسيطًا نحو القضية، ليس من جانب طرف بعينه؛ بل من كل أحرار العالم؛ فإلى الآن لم يقدم متهمٌ واحد للعدالة، وهم كثُر، والأدلة ثابتة على جرائمهم، كما لم ننجح فى عرض القضية بشكل أفضل؛ ربما لعدم التنسيق، أو للبخل فى الصرف عليها، ولو أننا عالجنا هذا التقصير لأزيل الخلاف الواقع الآن ولحدث تقدم على المستوى السياسى، الإقليمى والمحلى.

ليجتمع الكلُّ على كلمة سواء؛ إذ لا خلاف على القاتل، فلتكن سهام الجميع موجهة إليه، وإلا فإن التنازع يُورث الفشل ويذهب الريح، أما الوحدة واجتماع الكلمة فيورثان الصبر وطول النفس واحتمال الصعاب، وكأنى بالمسلمين بعد أُحد وقد تعددت عليهم مشاهد البلوى وعمتهم المصيبة؛ فتأتى (آل عمران) لتزيل آثار العدوان، وتمحو عواقب الهزيمة، وتدين الآسين على ما وقع (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:146].

إن أصحاب المبادئ يفنون أعمارهم في سبيلها، وقد يموتون دون أن يروا أثرًا لغراسهم، دون يأس أو قنوط، وذلك ما جرى لسادتنا الأنبياء والمرسلين: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [غافر: 77]. لما أشيع أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قُتل يوم أُحد، رأى أنس بن النضر عمر –رضى الله عنه- ومعه رهط فقال لهم: ما يقعدكم؟ قالوا قُتل رسول الله، قال: ما تصنعون بالحياة بعده ؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم جال بسيفه حتى قُتل.

البكاء وحده لا يصلح لنصرة القضية، والتهييج أيضًا لا يصلح؛ فوق أنه يلد الخلاف ويثير الجدل، إنما تنفع الشورى ووحدة الهدف، والثقة والإخلاص والتجرد، وتوسيع دائرة المتعاطفين؛ بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نكون ألحن بحجتنا من القتلة المجرمين.. ألسنا على الحق وهم على الباطل؟!

أضف تعليقك