بقلم: قطب العربي
ها هي الذكرى السادسة لذكرى أفظع مجزرة في العصر الحديث (رابعة) تظلنا، وها نحن نستحضر أحداثها المؤلمة التي لم ننسها للحظة واحدة، وها هو السؤال المحوري الذي يطرح نفسه بقوة ماذا قدم رافضو الانقلاب والاستبداد داخل مصر وخارجها خلال السنوات الست الماضية وبالذات تجاه المذبحة وشهدائها؟
لنتذكر أولا أن مذبحة رابعة تمت مع سبق الإصرار والترصد (بالتعبير القانوني)، وتمت أمام ملايين البشر الذين تابعوها على الهواء مباشرة، وأن ضحاياها توزعوا على كل محافظات ومدن مصر، لقد كانت رابعة تجسيدا لمصر الحرة كلها بكل فئاتها وأطيافها، وجهاتها، لم يغب عنها إلا مؤيدو الانقلاب والاستبداد، وبالتالي فإن رابعة محفورة في كل مكان من أرض مصر وليس فقط ذاك المكان الذي حمل اسمها، والذي تم تغييره إلى اسم من أمر بفض اعتصامها وسفك دماء معتصميها السلميين.
لنتذكر أيضا أن تقريرا حقوقيا دامغا صدر عن منظمة هيومن رايتس ووتش تحت مسمى (حسب الخطة) استغرق إعداده سنة كاملة، وصدر في الذكرى الأولى للمذبحة في أغسطس 2014، تضمن توثيقا لجريمة الفض التي وصفها بجريمة ضد الإنسانية، وعدد الشهداء، وأسماء المتهمين الأساسيين الذين قادوا المذبحة، وفي مقدمتهم وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي ووزير الداخلية الأسبق محمد إبراهيم، وقائد القوات الخاصة في عملية رابعة مدحت المنشاوي، ورئيس جهاز المخابرات العامة محمد فريد التهامي، وثمانية من كبار مساعدي وزير الداخلية، وثلاثة من كبار قادة الجيش، والعديد من القادة المدنيين رفيعي المستوى، وقد دعت المنظمة إلى محاكمة هؤلاء المجرمين، لكن شيئا من ذلك لم يتم رغم مرور 6 سنوات، بل إن وزير الداخلية الأسبق كرم رجاله الذين شاركوا في الفض، وهو ما تكرر مع ضباط القوات المسلحة أيضا، وظل القادة الكبار المشاركون في الجريمة في مواقعهم أو انتقلوا إلى مواقع شرفية أخرى تكريما لهم وتحصينا من الحساب.
وغنوا تسلم الأيادي
لم يكن متوقعا أن يحاكم النظام أحد منتسبيه على جريمة فض رابعة التي نصب أنصاره الاحتفلات لإنجازها، وغنوا "تسلم الأيادي"، ولم يكن متوقعا أن يعترف النظام بارتكابه أي جريمة، ولكن البعض راهن على الضمير الإنساني الدولي الذي تحرك بقوة في مذابح مشابهة من قبل سواء في مذبحة الميدان السماوي في الصين عام 1989، أو مذبحة أوزبكستان، أو مذبحة سربرنتسا، لكن هذا الضمير مات أيضا مع شهداء رابعة، فلم يحرك ساكنا، وظهرت بعض التصريحات الخجولة من بعض المسؤولين الدوليين، لكنها لم ترق إلى مستوى الفعل، بل إن القضاء البريطاني لم ينصف ضحايا رابعة حين عرضت أمامه دعوى قضائية أقامها حزب الحرية والعدالة، فحكم بحصانة السيسي، ولم يصدر حكما بإدانة بقية الوزراء المتهمين، ولم توقف الدول الأوربية دعمها لنظام السيسي أو إمداده بأدوات القمع والتعذيب، نظير صفقات ضخمة تعقدها معه ويدفع ثمنها المواطن المصري بمديونيات مليارية لن يقتصر عبء سدادها على الجيل الحالي بل ستمتد لأجيال مقبلة.
لقد شهدت السنوات الست الماضية وخاصة نصفها الأول حراكا ميدانيا معقولا تلاشي شيئا فشيئا مع الوقت داخل مصر بسبب القبضة الأمنية البشعة وتصفية، أو اعتقال أو مطاردة معظم النشطاء الذين كانوا يرتبون ويشاركون في تلك الفعاليات، واستمر موسميا في الخارج ( في المناسبات مثل ذكرى الثورة أو الانقلاب أو ذكرى فض رابعة)، سواء عبر وقفات أو مسيرات أو مؤتمرات جماهيرية، وواكب ذلك تحركات حقوقية وقانونية إذ تم رفع دعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد النظام المصري وبعد شهور من المداولات رفضتها المحكمة بحجة أن مصر غير موقعة على نظامها الأساسي ..
كما تم رفع دعوى أمام القضاء البريطاني ضد السيسي وبقية المتهمين في جريمة فض رابعة، وبعد جلسات عديدة توصلت المحكمة على حكم سياسي وهو عدم قبول الدعوى بحق السيسي باعتباره "رئيس دولة!!"، وفتحت الباب لإمكانية محاكمة غيره من الوزراء لأنهم لا يتمتعون بالحصانة ذاتها، ولكن محاكمتهم لا يمكن أن تتم إلا حال وجودهم على الراضي البريطانية وهو ما تجنبه هؤلاء المتهمون حتى الآن، بل إن وزيرا في حكومة الببلاوي اضطر للهرب من إحدى الدول الأوربية قبل أن ينهي مهمته بسبب بلاغ ضده، كما أن النائب العام الراحل هشام بركات اضطر للهرب من فرنسا سريعا قبل إتمام مهمته في يناير 2015 بعد أن علم المصريون في فرنسا بزيارته وتقدموا ببلاغ ضده باعتباره شريك في جريمة فض رابعة، واضطر السيسي أن يلغي زيارة إلى جنوب أفريقيا بعد الإعلان عنها والتحضير لها في 2016 للمشاركة في القمة الأفريقية بسبب تقديم بلاغ ضده من مصريين هناك، وإلى جانب تلك التحركات القانونية كانت هناك جهود حقوقية في الأمم المتحدة دفعتها إلى إصدار عدة تقارير وبيانات حول تردي الأوضاع الحقوقية في مصر ومن ذلك تقرير لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، وتقارير المفوضين الخواص للأمم المتحدة حول القتل خارج نطاق القانون والإعدامات، وحرية الرأي والتعبير، والاعتقال التعسفي الخ، كما أصدرت العديد من المنظمات الحقوقية الكبرى تقارير وافية عن تردي الأوضاع في مصر مثل هيومان رايتس ووتش والعفو الدولية ومراسلون بلا حدود .. إلخ.
التواطؤ الدولي
هل يعني ذلك اليأس من المسار القانوني الذي لم يفلح في إيقاع عقوبة بأي متهم حتى الآن بسبب التواطؤ الدولي؟
الإجابة لا بالتأكيد، فالمناخ الدولي الحالي والسابق الذي وفر الحماية للسيسي ورجاله قابل للتغيير في أي لحظة، ومن ثم فإن من الضروري تكرار المحاولات برفع المزيد من الدعاوي بما في ذلك أمام المحكمة الجنائية الدولية من خلال تقديم شكوى للمدعي العام، وليس للمحكمة مباشرة على أن يقوم المدعي العام حال توفر البيئة الدولية المناسبة بالتحقيق في تلك الشكوى وجمع ما يلزم من أدلة ومن ثم تقديم الدعوى للمحكمة.
ومن الضروري أيضا تجديد المطالبة بلجنة تقصي حقائق دولية حول الجريمة والمشاركين فيها، فهذه جريمة لا تسقط بالتقادم، وإضافة إلى ذلك فمن المهم أن تتطوع مجموعة عمل حقوقية قانونية لتوثيق المجزرة بشكل مهني كامل من حيث أسماء القتلى والمصابين وعناوينهم وتحديد كل من شارك في جريمة الفض وتحضير ملفات كاملة عنهم، وإلى جانب كل هذا فإن من المهم أيضا الاستمرار في فعاليات التذكير بالجريمة كلما حان موعد ذكراها السنوية بما يحفظها في الذاكرة الوطنية ولا يسمح بمحاولات محوها، وهنا فإن من الحماقة أن يسخر البعض من هذه الفعاليات ومن ينظمونها، ويكيلون لهم الاتهامات بدلا من أن يقدموا لهم التحية على مجهودهم حتى وإن بدا ضعيفا.
خلال السنوات الست الماضية نجحت المنظومة الإعلامية لرافضي الانقلاب في قيادة معركة الوعي، وكان من ذلك شعور الكثيرين بالخطأ في موقفهم من اعتصام رابعة ومن ثم فضه، وظهرت هذه المواقف في كتابات وتصريحات متلفزة أو مكتوبة على حسابات أصحابها في وسائل التواصل الاجتماعي، وإن كان البعض ممن ينتسبون لقوى ليبرالية أو يسارية يكابرون ويتمسكون بمواقفهم اللإنسانية من رابعة حتى الآن، فإن غالبية الشعب المصري أصبحت تدرك الحقيقة بعد أن انقشعت عن أعينها تلك الغشاوات التي صنعتها الأذرع الإعلامية لسلطة الانقلاب، وبعد أن لمسوا كذب تلك الأذرع فيما يخص معيشتهم وحياتهم اليومية والوظيفية .. إلخ.
مرور ست سنوات على مذبحة رابعة ليس معناه أنها دخلت أو ستدخل ثلاجة التاريخ، فالدماء لا تتحول أبدا إلى ماء، وجريمة القتل لا تسقط بالتقادم، ولن يضيع حق ورائه مطالب، وأهل رابعة وأنصار الحرية والديمقراطية في مصر وخارجها لم ولن يرفعوا الراية البيضاء استسلاما للمستبدين، وما خروج بعضهم من مصر إلا فتحا لجبهات جديدة ضد الاستبداد وليس فقط طلبا للسلامة الشخصية، والمعركة ضد النظام حتى وإن كانت تجري الآن في ظل موازين مختلة لصالحه إلا أن هذه الموازين لن تبقى على وضعها الحالي دوما فدوام الحال من المحال، والقصاص العادل لن يكون صعب المنال.
أضف تعليقك