بقلم.. سليم عزوز
الساعة الآن الرابعة عصراً بتوقيت أم القرى ومن حولها، أي بعد أكثر من 16 ساعة من وقوع انفجار معهد الأورام بمنطقة المنيل، محافظة القاهرة. ورغم مرور هذا الوقت، إلا أننا لا نعرف حقيقة ما حدث، رغم حضور المسؤولين بأجسادهم إلى المعهد في ساعة مبكرة من وقوع الانفجار، حيث حضرت وزيرة الصحة، ووزير التعليم العالي، ورئيس جامعة القاهرة، لكن هذا الحضور (بالأجساد) لم ينتج أثراً؛ في دولة يقوم الأداء فيها على مفهوم "اللقطة" التي تُغني عن العمل. وقد التقطت صورة لوزيرة الصحة وهي تجلس على أريكة في حالة حزن. وهي مشاعر نبيلة ولا شك؛ يقلل من قيمتها عدم وجود الكفاءة اللازمة للإنقاذ، فشاهدنا صور الأطفال المرضى وهم يجلسون مع ذويهم على الأرصفة، في انتظار الفرج ونقلهم لمستشفى آخر لاستكمال العلاج!
إلى الآن، ومع هذا الحضور لثلاثة من المسؤولين، لم يتم إطلاع الرأي العام على حقيقة ما جرى، وقد بدأت الروايات برواية أن سيارة كانت تسير عكس الاتجاه في الشارع الذي يقع فيه معهد الأورام، وقد اصطدمت بثلاث سيارات دفعة واحدة، مما نتج عنه هذا الانفجار، ثم بدأت روايات أخرى تنشر على السوشيال ميديا؛ تفيد واحدة منها أن الانفجار كان بداخل المعهد وفي حجرة الأوكسجين، في حين قالت رواية أخرى أن الانفجار كان بسبب اصطدام سيارة بعربة نقل محملة بأنابيب البوتاجاز!
تفجيرات عبد الناصر:
وكل هذه الروايات منشورة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ لمن قالوا إنهم شهود عيان، دون أن تنشر الرواية الرسمية، ومن الطبيعي (والحال كذلك) أن تنتشر الشائعات، وتختلط الأوراق، وتلتف الساق بالساق، لا سيما وأن سمعة النظام العسكري في وجدان الرأي العام عندما يكون الأمر مرتبطا بحوادث التفجيرات؛ ليست مطمئنة. فعند وقوع أي انفجار يتذكر الناس كيف أن جمال عبد الناصر قام بستة تفجيرات في القاهرة، لتخويف الناس من عودة الحياة المدنية، ودفعهم للشعور بأنهم في خطر، ويحتاجون للحكم العسكري الذي يلغي الديمقراطية، فلا أمان لهم إلا في ظل الاستبداد!
وهو الأمر الذي يستدعي أن تبادر السلطة بذكر الحقيقة، حتى لا تفتح الباب للقيل والقال، لكن الملأ تأخروا عن ذكر أسباب ما حدث، رغم أن النائب العام كلف النيابة العامة بالتحقيق بعد الحادث مباشرة!
وأول ما يلفت الانتباه هو غياب الإعلام المصري، وحضور قناة الجزيرة، بالشكل الذي أعادنا إلى سالف العصر، عندما كنا نهرع إلى "راديو أمريكا" وإذاعة "هنا لندن"، لمعرفة ما يحدث على التراب المصري، وهي مرحلة تجاوزتها مصر منذ زمن طويل. وإذا كان الغياب طبيعياً في الإعلام الرسمي، فأين القنوات التلفزيونية الخاصة؟ وهل يوجد في مصر قنوات خاصة غير "صدى البلد"، والتي هي خاضعة للتوجيه الأمني؟.. وأين الصحافة الورقية، والصحف الإلكترونية؟.. ولماذا يحجم الصحفيون عن تغطية مثل هذه الحوادث، على نحو يوحي بأن مهنة الصحافة ماتت في مصر، واستمرار هذا الحكم أكثر من هذا يعني انقراض هذه المهنة!
وهو أمر لا بد وأن يشعر المرء بالحزن لهذه النهاية المأساوية لمهنة كانت مصر سباقة في معرفتها، وتعد نقابة الصحفيين فيها أقدم من دول لها علم ونشيد، وهي نقابة تأسست في عهد الاحتلال الأجنبي للبلاد، فلما وصلنا لحكم وكلاء المحتل، تم إلغاء المهنة بجرة قلم!
لا بد وأن يشعر المرء بالحزن لهذه النهاية المأساوية لمهنة كانت مصر سباقة في معرفتها، وتعد نقابة الصحفيين فيها أقدم من دول لها علم ونشيد
توجيه قناة العربية:
ومع وصول الساعة للرابعة والنصف بتوقيت مكة المكرمة، أذاعت قناة الحلفاء "العربية"؛ "عاجلاً" نصه: وسائل إعلام مصرية نقلاً عن الداخلية: السيارة التي اصطدمت بمعهد الأورام كانت تنقل متفجرات؟!
البيان الذي صدر من وزارة الداخلية لم يذكر شيئاً من هذا، فمن وراء هذا النشر في قناة الحلفاء في الإمارات، وما هي وسائل الإعلام المصرية التي نقلت عن وزارة الداخلية هذا الكلام؟! والبيان في متناول الجميع؟!
هل هذا توجيه من إمارة أبو ظبي، بإلقاء الاتهام على الإرهاب؟
لقد عدلت "العربية" في عاجلها على هذا النحو: "الداخلية المصرية: سيارة معهد الأورام كان يتم نقلها إلى أحد الأماكن لشن عملية إرهابية".. وفي عاجل آخر كان الخبر هو أن سيارة من هذه السيارات كانت تحمل متفجرات، أي أنها أكثر من سيارة تتبع الإرهابيين وكأنهم يتحركون في موكب رئاسي!
ثم نشرت "العربية" عاجلا جديدا نصه: "السيسي يصف الحادث بأنه إرهابي وجبان"، وفي عاجل جديد: "السيسي: الدولة المصرية عازمة على مواجهة الإرهاب واقتلاعه من جذوره"!
اللافت أن العربية سبقت القنوات التلفزيونية الرسمية التي نشرت هذا الكلام المنسوب للسيسي بعد قناة "العربية"!
هل كان الأمر يحتاج إلى كل هذا الوقت لمعرفة أن الحادث عمل إرهابي جبان، وهل يعني هذا وصول الإرهاب إلى قلب العاصمة المصرية؟ وأين الحديث عن قوة السيسي في تحقيق الأمن والأمان؟
فمن يدير المشهد في مصر؟!
إلى الآن الساعة 4:43، لم تنشر وزارة الداخلية أي بيانات جديدة، والبيان الأول لها لم يذكر شيئاً عن الإرهاب!
ومهما يكن، فهل كان الأمر يحتاج إلى كل هذا الوقت لمعرفة أن الحادث عمل إرهابي جبان، وهل يعني هذا وصول الإرهاب إلى قلب العاصمة المصرية؟ وأين الحديث عن قوة السيسي في تحقيق الأمن والأمان؟ بل ما هو معنى تمديد قانون الطوارئ، ما دام عاجزاً عن منع الإرهاب، لدرجة أن سيارة تحمل متفجرات، وتسير في شوارع القاهرة في موكب، دون أن يستوقفها أحد إلا بعد أكثر من ست عشرة ساعة من وقوع الانفجار؛ الذي هو بسبب رعونة سائقها، كما تقول الروايات المتواترة، حيث كان يمشي عكس الاتجاه، واصطدم بثلاث سيارات دفعة واحدة. وهو في سيره عكس الاتجاه، لم يجد من يوقفه أو يشتبه فيه، فلو صحت هذه الروايات لتأكيد أنها أزمة الحكم العسكري الذي سخر الأمن كله من أجل حماية فرد واحد، غير مكترث بشيء من هذا!
الغرق في شبر ماء:
وفي السياق ذاته، فقد تأكد غرق السلطة (مع حضورها للحادث) في شبر ماء، فلا نعرف أين هي الطائرات التي يوجد فيها وفر، لدرجة قيامها بالمساعدة في إطفاء حريق بإسرائيل! لماذا لم تتحرك لإطفاء هذا الحريق الذي نتج عن الانفجار؟ أم تراها ينطبق عليها المثل المصري الشعبي: كالقرع يمد لبره؟!
وأين هي الدولة (مع حضور وزيرين ورئيس جامعة القاهرة) للقيام بنقل المرضى إلى مستشفيات أخرى، وقد تم تركهم على الأرصفة في مشهد حزين، مع أنهم لا يعالجون من الأنفلونزا ولكن من السرطان، وأي لحظة خارج دائرة العلاج والرعاية تمثل خطراً داهماً على حياتهم؟
لقد بدأت قناة النيل للأخبار نشر البيان المنسوب لوزارة الداخلية الآن وفي الساعة الخامسة إلا ثلاث دقائق، دون أن يوجد هذا البيان على صفحة الوزارة، فهل وصلها البيان فعلاً، أم أنها تنقل عن قناة "العربية" باعتبارها قناة مصر الرسمية؟!
الحقيقة، أن "النيل للأخبار" أذاعت تفاصيل أكثر من تلك التي نشرتها "العربية"، حيث ذكرت أن السيارة مسروقة من محافظة المنوفية وتم الإبلاغ عن سرقتها قبل ثلاثة شهور، دون الأخذ في الحسبان أن مثل هذا الكلام من شأنه أن يضر بسمعة الأمن، في ظل حكم لا يجد أنصاره ما يقولونه لتأكيد أهليته للحكم إلا بقدرته على تحقيق الأمن!
فالسيارة مسروقة ولم يتم العثور عليها لمدة ثلاثة شهور، ثم إنها وهي مسروقة تتحرك في قلب القاهرة دون أن يتم توقيفها، مع أنها تسير عكس الاتجاه.
عندما رأيت صورة الأطفال المرضى والأمهات على الرصيف، تداعت للذاكرة صورة عبد الفتاح السيسي وشبابه قبل أيام، وكأن الصورتين تنتميان لدولتين مختلفتين، واحدة فقيرة والثانية تنفق من المال السائب، عندها تذكرت الأغنية الرسمية للانقلاب العسكري: "احنا شعب وأنتو شعب.. لينا رب وليكم رب"!
نعم نحن شعب وأنتم شعب، ولنا رب اسمه الكريم.
أضف تعليقك