بقلم: وائل قنديل
برحيل الرئيس التونسي، الباجي قايد السبسي، تكون الشعوب العربية قد فقدت آخر علامة باقية على تحقق الإرادة الجماهيرية، وقدرتها على أن تختار من يحكمها عن طريق الانتخاب الحر الديمقراطي.
وبعيدًا عن التخندقات الحزبية والأيديولوجية، كان الباجي آخر رئيس عربي منتخب من الجماهير، بعد الرئيس المصري، الوحيد المنتخب انتخابًا حرًا ونزيهًا، الشهيد الدكتور محمد مرسي.
الثابت أن الشعوب العربية لم تتذوق طعم الاختيار الديمقراطي، إلا في مناسبتين يتيمتين، الأولى في مصر عام 2012 في ماراثون انتخابي، تنافس فيه سبعة مرشحين حقيقيين، بالإضافة إلى آخرين لم يلتفت لترشحهم أحد، والثانية في تونس نوفمبر 2014، وشهدت سباقًا سياسيًا مثيرًا على مضمار الديمقراطية، بين المنصف المرزوقي وقايد السبسي، حسمت لصالح الأخير، بفارق ليس كبيرًا في الأصوات.
منجز الديمقراطية التي اكتسبتها مصر بعد ثورة يناير في 2011 تحول من حلم جميل إلى كابوس مرعب، بعد نجاح النظام العسكري القديم في الانقضاض على التجربة الوليدة، وتحويلها إلى رماد ودماء، بالاستعانة بنخب سياسية سقطت في أول امتحان للمبادئ والقيم الثورية، فقرّرت أن تضحي بالثورة وبالديمقراطية معًا، وتسلم البلاد إلى الماضي، بكل قبحه وشراسته.
يشاء القدر أن يرحل السبسي، المنتج الديمقراطي التونسي، عشية ذكرى يوم عبوس، منحت فيه النخبة الثورية المصرية تفويضًا مفتوحًا بالقتل والقمع والقهر للسيسي، المنتج العسكري الانتقامي المصري، وذلك في السادس والعشرين من يوليو 2013. في تلك اللحظة التي وصفتها، في ذلك الوقت، بلحظة افتتاح الهولوكوست، حين طلب قائد الانقلاب العسكري تفويضًا يتيح له أن يفعل بالبلاد والعباد ما يشاء، وقلت إنها أول دعوةٍ رسميةٍ إلى الانتحار الجماعي والقفز في أتون حريق قومي شامل، أن يدعو قائد الجيش الشعب إلى الخروج الكبير، لتفويضه بمواجهة ما يسميه "العنف والإرهاب".
المفارقة المدهشة هنا أن من كانوا ضحايا لهجمات "المواطنين الشرفاء" مدعوون الآن لكي يلعبوا دور الشرفاء في مواجهة من كانوا يحمون الميدان معهم في منعطفاتٍ ثورية خطيرة، أهمها على الإطلاق موقعة الجمل، بل منهم من يتقمص شخصية "الشبيح الليبرالي"، ويهتف "فوضناك"، بالرقاعة ذاتها التي قالوا بها للمخلوع "اخترناك".
مصر كلها تواجه اليوم أعنف اختبار للأخلاق والإنسانية والقيم الثورية التي تجلت في يناير 2011 وما تلاه. أما تونس، الحبّة الأولى في مسبحة الربيع العربي، فقد نجحت، بجدارة، في الإفلات من فخ العودة إلى جحيم الماضي العميق، ولم ترتدّ عن ثورتها، أو تستسلم للوثة استدعاء الماضي، والتحالف معه لإحراق المستقبل، وهدم البيت على رؤوس الجميع، ولم تلق بالمسبحة لتقفز في المذبحة، ذلك أن نخبة تونس استطاعت أن تحتفظ بثوريتها وإنسانيتها، وضربت المثل الأروع في استيعاب التناقضات، واحترام الاختلاف والتنوع، فلم تسقط في حماقة إغراق السفينة بمن عليها، ولم تستسلم للإغواء، وتتنازل عن شرفها الثوري والسياسي.
نعم، كان قايد السبسي منتميًا إلى الماضي أكثر من المستقبل، بشكل كبير، غير أن القيمة الأهم والأجمل أنه جاء بشروط المستقبل، والتزامًا بمحدّدات الحاضر الثوري وضوابطه، فكان رغم أنفه، وأنف الجميع، منجزًا حقيقيًا للتغيير الثوري، والتطور الديمقراطي الذي جادت به ثورة الياسمين، ثمرة ثانية ناضجة ويانعة لإرادة جماهير الربيع العربي.
الآن، وبعد رحيل السبسي، تواجه تونس امتحانًا ثوريًا وديمقراطيًا جديدًا، تخوضه، وقد أنجزت بناءها السياسي القوي، الأمر الذي يضع نخبتها وجماهيرها أمام استحقاقٍ تاريخي، كلنا أمل في قدرتها على تجاوزه بنجاحٍ، لا يقل روعة عما حققته في العام 2014.
نعم، يحدونا الأمل في أن الشعب التونسي الشقيق، جماهير ونخبًا، لن يحرق الياسمين أو يسمح بتسميمه بالملوثات الآتية من محور أعداء الربيع العربي الذي يستعد بخزائنه الآن لحرق آخر ما تبقى من مساحةٍ مزروعة بثورات التغيير.
نعم، رحل المنتخب الأخير، ولكن تونس ستحمي مبدأ الانتخاب، وتذود عن ثورتها وثمرتها الديمقراطية.
أضف تعليقك