بقلم سيف الدين عبد الفتاح
كنت قد كتبت بعد أيام من وقوع الانقلاب الفاشل في تركيا داعيا الله سبحانه وتعالى "اللهم لا تجمع علينا انقلابين".. وها هي الأيام تمر ذكراها فتحرك الذاكرة.. انقلاب فاجر تمكن في مصر وانقلاب فارق فشل في تركيا..
تحدثت في المقال السابق عن انقلاب مصر الفاجر الذي تمكن تمكنا زائفا مزورا، واليوم أتحدث عن انقلاب تركيا الذي فشل في سياق مواجهة شعبية عرفت قيمة الجمهورية والحكم المدني، فواجه الناس الانقلاب وأسلحته بصدور عارية، وصدحت المآذن بأذان في غير وقت صلاة عندما انتصف الليل، وخرج الناس من بيوتهم يرفضون الانقلاب وحكم العسكر القادم، وقد خبروه وعرفوه وذاقوا مرارته مرات عدة؛ قرر الناس بكل أطيافهم ألا يمر ذلك الانقلاب حتى لو كان في ذلك التضحية بأنفسهم، لم يجزعوا ولم يرتعبوا بل هتفوا لتركيا، ونادى عليهم رئيسهم الشرعي أن ينزلوا بكل قوتهم ليحموا تركيا المدنية ومكتسباتها..
لم يهتف أحد لشخص بل هتفوا لتركيا والعلم، واجتمعت كافة القوى السياسية على اختلافها تحمي الحياة المدنية، وواجهوا من اغتصب السلاح وحركه في الناحية الخطأ.. واجهوا الدبابة، وأكد الجميع أن الجيش ليس هذا ميدانه.
يُعد انقلاب تموز/ يوليو الفاشل علامة فارقة كاشفة في مسارات تركيا الاستراتيجية، إذ أكد على ضرورة تلك الرؤية الجدلية متوازنة بين ثنائيات كانت متصارعة متنافية، وأتى حزب العدالة والتنمية ليقدم رؤية متكاملة مواتية لتحديد الخيارات والاستراتيجيات التي تتعلق بتركيا الجديدة. فلا زالت تركيا تؤكد على المعطيات الجغرافية بالاتجاه شرقا وغربا، ولا تزال تمد في نطاق اهتمامها، فتظل حاضرة في ساحات متعددة من تلك الأزمات المختلفة التي طالت المنطقة والإقليم، مما أدى إلى إعادة صياغة كيان المصالح الاستراتيجية التركية في قلب تلك الأزمات، وأدى إلى امتداد ساحات الاهتمام التركية وحضورها من غير غياب في تلك المساحات.
وبحضور مؤثر وفعال، فإن الاستراتيجية والسياسات التركية يجب أن تشير إلى إمكانات صناعة المكانة، وتحقق ذلك في إطار جامع بين تبنٍ لكثير من القضايا التي تعبر عن الهوية الإسلامية، وبين استثمار العلمانية الإيجابية ضمن مشروعات التغيير والنهوض داخل تركيا، وإعادة صياغة الحياة السياسية بما يحقق الحفاظ على الجمهورية من ناحية، والديمقراطية من ناحية أخرى، وضرورة إعادة صياغة العلاقات المدنية العسكرية وفق رؤية واضحة تؤصل وتمكن لوجود جيش تركي قوي؛ يقوم بمهام الحماية الأساسية للمصالح الاستراتيجية التركية، ضمن إطار المهنية في أداء هذه الوظائف، مع الحيادية في مجال السياسية الداخلية، وهو ما يعني لزوما رفضا على المستوى الرسمي والقوى السياسية والقوى المدنية والحركة الشعبية لكل ما من شأنه أن يعيد الجيش إلى سيرة الانقلابات الأولى، وسد كل المنافذ التي يمكن أن ينفذ منها الجيش للتأثير على مجرى الحياة السياسية من خلال المسارات الانقلابية.
بعد وقوع محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، من المهم أن تُميّزَ بين أمور ثلاث تتقاطع فيما بينها، وتتمايز مساحات عملها وساحات قرارتها بما يشكل رؤية متكاملة لعملية تسيير شاملة للموقف فيما بعد هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة.. أول هذه الأمور يتعلق بإدارة الأزمة، وثانيها يتعلق بإدارة الفرصة، وثالثها يتعلق بإدارة الصراع.. عمليات بعضها من بعض، تتكافل وتتكامل، وتعبّر عن وعي استراتيجي بقواعد أساسية تتعلق بعلم التدبير السياسي وعلوم الحركة.
الأمر هنا يتعلق بصياغة مَكينَة لتركيا الجديدة.. تركيا ما قبل الانقلاب يجب أن لا تكون تركيا ما بعده. تعبّر تركيا اليوم في حقيقة أمرها عن عملية تغيير شاملة واعية، بصيرة راسخة، مَكينة قادرة على أن تشكل حقائق المستقبل ضمن رؤية واضحة.
إدارة الأزمة تتعلق بتلك الحالة الانقلابية التي جمعت بين التوقع والمفاجأة في إطار الحالة التركية التي ترتبط في الذهنية بخبرة ممتدة في الانقلابات العسكرية، الأزمة في أحد معانيها الطبية تعبّر عن حالة استثنائية تتطلب قدرة على إدارة الاستثناء وإدارة حالة الضرورة، بحيث لا تغادرها إلى عناصر يمكن أن تَطولَ، ومساحات لا يمكن التحكم فيها أو بها.. أمور يمكن إدارتها على التراخي والتدريج، خاصة في ما يتعلق منها بإدارة المسائل والقضايا المجتمعية.
الأمر هنا شديد الخطورة فيما لو خلطنا بين حال إدارة الأزمة وإدارة الصراع، وتداخلهما وتقاطعهما مع ما قد يتصوره البعض أنها فرصة تحرك كثيراً من عناصر التغيير الشامل غير المحسوب. وحينما نؤكد على إدارة الأزمة، فإن الأمر يتعلق بمستويين مهمين: إدارة الخطاب وإدارة العقاب والحساب، من دون إفراط أو تفريط. فإدارة الضرورة تقدر بقدرها مساحة وتوقيتاً وإدارة لحال المجتمع بمعطياته وضروراته.
تزامن مع إدارة الأزمة إدارة الخطاب بشكل مناسب وفعّال، مما شكّل في حقيقة الأمر حالة نجاح استطاعت أن تواجه وتقاوم تلك المحاولة الانقلابية بكل تنوعاتها وامتداداتها. تمثل ذلك في حالة الترويج في البداية بأن من قام بالانقلاب هم فئة محدودة من رتب صغيرة ووسيطة، وهو أمر حمل الرسالة إلى الجميع بأنها محاولة ليست عصية على التطويق أو الاحتواء.
وكذلك كان من المهم في الخطاب الحديث عن الجيش كمؤسسة؛ أنه يمثل حالة ترتبط بحماية الجمهورية والديمقراطية، وأن ما قام به البعض إنما يمكن أن يسكن ضمن حالات التمرد المحدودة، وأن الجيش يعبّر عن مؤسسة مهمة داخل الدولة، لكنه لا يشكل في جوهر المؤسسة خروجاً على قواعدها الديمقراطية التي رسخت في مواجهة أي حركة انقلابية.
وضمن هذا الأمر، كان من المهم كذلك أن يبرز في الخطاب تلك الحالة الجامعة للقوى السياسية المتنوعة والقوى الحزبية المتعددة. فرغم أن تلك القوى كانت تمارس انتقاداً حاداً لسياسات "أردوغان" وما رأته من محاولات لاستحواذ على مساحات السلطة، إلا أنها كانت واضحة وبالسرعة المناسبة في إعلان مواقفها الداعمة للجمهورية والديمقراطية والسلطة الشرعية المنتخبة، بينما استنكرت أي محاولة انقلابية لاغتصاب أو قطع الطريق على هذا المسار السياسي الديمقراطي. بدا كل ذلك تعبيراً عن هذه الجامعية؛ في خطاب يؤكد حالة التماسك السياسي للجمهورية والدفاع عن الديمقراطية.
أما الأمر الفصل، فيكمن في التوجه إلى الحالة الشعبية، والذي كان أهم ركن في استنهاض تلك الطاقات الجماهيرية لممارسة مواقفها الرافضة للحالة الانقلابية، وهو أمر يجعل من هذه الجماهير قاعدة مَكينةَ في مواجهة المحاولة الانقلابية.
إن خروج الجماهير التركية بكل أطيافها وتنوع توجهاتها وكامل طبقاتها، بل وخروج الأسرة التركية بأسرها، عبّر عن حالة رمزية لا يمكن لأي انقلاب تخطيها أو مواجهتها بأي أساليب قمعية واسعة، ذلك أن تلك الحالة الانقلابية شكلت تميزاً في شكل الانقلابات العسكرية في تركيا، حينما نزلت إلى الشارع، وإلى مفاصل استدعت القيادة التركية الشرعية هذه الحالة الجماهيرية إليها، رغم ممارسة بعض من قام بهذه الحالة الانقلابية نوعا من العنف، إلا أنه كان من المحدودية بما استنهض الهمم الشعبية في محاصرة الحالة الانقلابية، وتطويق محاولات الصدام الواسع بكتل شعبية توافدت على الميادين وعلى الأماكن التي وُجدت فيها قوى الانقلاب، مثل الزحف إلى المطار الدولي في إسطنبول، ما شكّل أهم حالة اختبارية في انسحاب قوى الانقلاب بدباباته ومدرعاته أمام الحشود الشعبية التي توافدت وشكلت حالة حصار حقيقية.
إنها حالة نجاح حركت الخطاب الفعال وحركت الجماهير الزاحفة، فعاد العسكر للثكنات راضخين، ليتأكدوا أن الشعوب هي أصعب رقم في معركة التغيير لمصلحة الوطن والمواطن.
أضف تعليقك