بقلم سيف الدين عبد الفتاح
تحدثنا في المقال الماضي عن تلك الأيام الملتبسة التي مرت على مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) وتوقفنا عند يوم الثلاثين من حزيران (يونيو) باعتباره الأكثر التباسا على القوى المصرية السياسية والأكثر تأثيرا على مسار الثورة.. ولم تمر أيام معدودة إلا وعاجل جنرالات العسكر تلك الاحتجاجات في الثلاثين من يونيو من قام بها ومن استهان واستخف بها، بانقلاب عسكري فاضح وواضح لا تخطئه عين، رغم أن البعض جعله امتدادا للثلاثين من يونيو باعتباره تدخلا من الجيش لحماية وتصحيح مسار ثورة يناير ومواجهة الإخوان الذين حكموا مصر.
مغالطات كبرى
وفي الواقع فقد تذرع هؤلاء جميعا بالمطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة مدعين أن ذلك أمر معهود في الظواهر السياسية وأن ذلك ما تشير إليه كتب السياسة المعتبرة؛ وفي حقيقة الأمر لم يكن ذلك إلا مغالطة كبرى، فللانتخابات الرئاسية المبكرة شروطها ليس منها أن تفرض كرها وجبرا قوى على الرئيس المنتخب ذلك طالما هو لم يرغب، ربما شكل ذلك في حقيقة الأمر علامة على أزمة سياسية كبرى وعلى الحالة التي وصلنا فيها إلى حال الاستقطاب وتمكنه من كافة القوى السياسية وتصاعد الاتهامات المتبادلة والتحالفات التي برزت، وظهور وزير الدفاع الذي انقلب بعد ذلك وكأنه كان يقوم بدور الوسيط بين الرئيس والمعارضة، ولكنه في حقيقة الأمر كان يدبر أمرا أخر غطاه بما أسماه هو ممارسة عناصر الخداع الاستراتيجي، وتلقف العسكر كرة السلطة الطائرة في الهواء والتقطها لتسقط في حجر العسكر مثل كل مرة.
اختطت المؤسسة العسكرية المصرية مسارا أخر يجعل من تلك المؤسسة ممثلة في قيادتها تحكم أو تتحكم
وأكدنا أن ذلك الإخراج، الذي يتعلق بانقلاب العسكر سواء في ذلك التصريح إن ثبت على لسان المشير طنطاوي من أنه مطلقا لم يسلم السلطة للإخوان ولكنه في حقيقة الأمر سلم الإخوان للشعب والناس، يؤكد أن العسكر شعروا بالتوتر الكبير بعد ثورة يناير متحدثين بالتصريح والتلميح عن أن وضعهم ومكانتهم صارت محل تهديد؛ وكأن أي حكم مدني في تصورهم وإدراكهم هو في الحقيقة بالخصم من سلطة العسكر وتمددها، حتى أن بعضهم قد أشار إلى عدم معقولية تعريض الجيش للسؤال في البرلمان أو المحاسبة، ذلك أن هؤلاء في عرفهم ينظرون إلى تلك المؤسسة باعتبارها صندوقا أسود لا يمكن لأحد الاطلاع على محتوياته ولا على كل متطلباته من ميزانية وتسليح، كل ذلك تحت دعاوى عدة تتعلق بالجيش وتأمينه.
ومن العجيب حقا أن بعض المعلومات عن تلك المؤسسة قد تطالعها في مجلات تختص بالشأن العسكري وجيوش العالم وتطالع ما يعتبره هؤلاء أسرارا، الأمر المؤكد أن هذا الإدعاء ظل يحكم العلاقات المدنية العسكرية وجعل من العسكر دولة داخل الدولة أو دولة فوق الدولة.
العسكر والحكم
وعلى الرغم من أن العلوم السياسية قد أفاضت في الفصل بين العسكري والمدني، وحاولت أن تحدد الأدوار المنوطة بالجيوش وحياديتيها ومهنيتها ضمن شروط عدة تحكم علاقاتها بالحكم المدني، إلا أن الأمر بالنسبة للعسكر في مصر مختلف، خصوصا بعد حركة تموز (يوليو) 1952، حيث اختطت المؤسسة العسكرية المصرية مسارا أخر يجعل من تلك المؤسسة ممثلة في قيادتها تحكم أو تتحكم، واعتبر العسكر أن ذلك يمثل حقا من الحقوق غير القابلة للنقد أو النقض أو التعقيب وأنه لا يقبل المساس أو التعديل. وباتت العبارة التي تشير إلى ممنوع الاقتراب والتصوير عبارة موحية وتعبير عن السرية وعن التهمة التي يمكن أن تلقى على أي أحد إذا اقترب من حياض العسكر أو المساحات التي حددوها لهم ولحركتهم ولمصالحهم.
هكذا كان الأمر في الثالث من تموز (يوليو) انقلابا عسكريا فاضحا وواضحا؛ وأتذكر هنا أنني دعيت إلى الفضائية المصرية في برنامج يوم الرابع من يوليو أو الخامس منه، وقد اعتقد من دعاني إلى المشاركة أنني سأكيل المديح لهذا الانقلاب على اعتبار أنني كنت قد تقدمت باستقالتي من الهيئة الاستشارية للرئيس مرسي رحمة الله عليه في السادس من كانون الأول (ديسمبر) 2012، وكنت أمارس نقدا سياسيا واسعا لكل الأطراف بما فيها الإخوان كقوة سياسية وكذلك مؤسسة الرئاسة، ولكن هذا النقد لم يكن في ذلك الحين إلا رغبة في الخروج من حال الاستقطاب الذي ساد وتمكن، توقع هؤلاء أن أكون من المناصرين لذلك الانقلاب ولكن في ذلك اليوم خرجت أؤكد باعتباري أستاذا في العلوم السياسية أن ما حدث ليس إلا انقلابا فاضحا واضحا، وأن ما تشير إليه كتابات العلوم السياسية في هذا المقام تسمي ما حدث انقلابا عسكريا وأنه لا يمكن المواربة في ذلك.
كان انقلابا من يومه الأول
كان معي في ذلك البرنامج للأسف الشديد الدكتور كمال الهلباوي الذي ناصر الانقلاب بشدة واتخذ موقفا مناقضا لما تبنيته وألبوا علي في ذلك الوقت من ألبوا من لواءات سابقين ومن خبراء (خوابير) استراتيجيين وقد أطلقت عليهم هذا اللقب في ذلك الحين، ورماني بعضهم بالتهم؛ إلا أن واحدا منهم أدى إليّ نصحا بأن لا أقول ذلك حتى لو كان انقلابا؛ وفي نهاية هذا البرنامج تحرش بي بعض المعدين إلى درجة الشروع في الاعتداء علي، تلك كانت قصة تسمية هذا الحدث بالانقلاب والتأكيد على وصف السيسي بالمنقلب؛ فقد سميت الحدث بالانقلاب وأطلقت على السيسي لقب المنقلب.
تحول هذا الانقلاب من خلال منظومة ساعدته إلى نظام انقلابي مكتمل الأركان يمكن تسميته "نظام الثالث من يوليو
بعد ذلك قام المنقلب وبعض من ساندوه بسياسات تمكن للانقلاب؛ وهنا أذكر الجميع بضرورة وضع قوائم اتهام ليس للمنقلب السيسي فحسب ولكن للمستشار عدلي منصور الذي كان ألعوبة في يد العسكر وكان رئيسا مؤقتا فعل ما أٌملي عليه وقام بأدوار خطيرة ترقى إلى مرتبة خيانة القانون والدستور؛ وكذلك الدكتور حازم الببلاوي الذي ترأس الحكومة بعيد الانقلاب والذي قامت حكومته بفض اعتصام رابعة، وارتكبت حكومته مجازر عدة من خلال جنود العسكر والقوى الأمنية وكذلك الوزراء الذين أسهموا بشكل مباشر في مثل تلك السياسات وما مثلوه من مطِيّة ركبها العسكر بانقلابهم وأتى هؤلاء على دباباتهم، إن قوائم الاتهام تلك مسألة أساسية عندما تحين المحاسبة والمحاكمة وحينما يأتي الوقت الذي تحين فيه ساعة الحساب والعقاب.
وتحول هذا الانقلاب من خلال منظومة ساعدته إلى نظام انقلابي مكتمل الأركان يمكن تسميته "نظام الثالث من يوليو"، استطاع أن يستغل كل القابليات الاستبدادية والبنية التسلطية للقيام بتأمين نظام فاشي ودولة بوليسية من خلال قرارات بقوانين هجم بها المنقلب على عموم المجتمع مختطفا كل مؤسساته بما فيها مؤسسة القوات المسلحة.
وليس لأحد أن يدعي لبسا في هذا المقام، فإن الثالث من يوليو كان إخراجا انقلابيا بامتياز؛ وأن من ساعد في ذلك أو أسهم في ذلك المشهد مدان على كافة المستويات ولا يسقط حسابه بالتقادم.
لم يكن الانقلاب في حقيقة الأمر إلا محاولة لقطع الطريق على مسار ديمقراطي استطاع هؤلاء بما قاموا به من سياسات شرعنة كاذبة إلى توطيد أركان انقلابهم العسكري الفاشي، وكشف كل ذلك عن صفحات غاية في الأهمية فيما يتعلق بثورة يناير التي أريد لها أن تطمس وأحداث مخادعة اتسمت في معظمها بالزيف والتدبير أريد لها أن تصعد.
وفي النهاية فإن من يدعي بعدم مسؤولية الثالث من تموز (يوليو) عما يحدث في مصر الآن، إنما يرتكب مغالطات كبيرة في سبيل أن يثبت صحة موقف لا يمكن أن يكون صحيحا عند أهل الثورة والتغيير.
أضف تعليقك