بقلم: وائل قنديل
قبل أسابيع، كان أحد الأمنيين يتطاول على اللاعب محمد أبو تريكة في حوار متلفز، ومن حيث تصوّر أنه يهينه ويقدح فيه، قال إنه من أصول فلسطينية وعائلته من غزة. .. أي شرفٍ آخر يضيفه هذا التافه إلى محمد أبو تريكة، وهو يحسب أنه يسيء له!
تأتي بطولة كأس الأمم الأفريقية المقامة في القاهرة، لتبين أن أبو تريكة ليس، فقط، فلسطينيًا، وإنما هو الجزائري والمغربي والتونسي، هو العربي، والمصري بالطبع، والأكثر مصرية من قوافل الانحطاط والوضاعة التي ترمي كل ما يضيء في مصر بحجر، وتنهال ببذاءاتها على كل من ينطق بكلمة حقٍّ في زمن الزيف الأجير.
من حيث أرادها معسكر عبد الفتاح السيسي مناسبةً لتجميل الوجه القبيح لهذه المرحلة، ورموزها، تحولت بطولة أمم أفريقيا في مصر إلى استطلاع رأيٍ عفوي للشعوب العربية بشأن الحالة المصرية، فإذا بالجماهير تفاجئ الجميع بموقفها الحضاري من منظومة القتل والظلم والانحطاط الحضاري التي تتحكّم في حياة المصريين، فتهتف للنجم محمد أبو تريكة، تحت الرقابة الأمنية اللصيقة من أجهزة السلطة التي تعادي أبو تريكة، وكل ما يمثله، منذ صار رمزًا من رموز التناقض مع ما يجري في مصر منذ انقلاب عبد الفتاح السيسي، والذي لم يكن انقلابًا على الحكم المنتخب فقط، وإنما قبل ذلك هو انقلابٌ على المقومات الحضارية والأخلاقية للدولة المصرية.
بات اسم محمد أبو تريكة يحيل مباشرة، وبشكل تلقائي، إلى قضية الثورة والانقلاب في مصر، ويستدعي على الفور ثنائياتٍ متضادة: محمد مرسي والسيسي، الديمقراطية والطغيان، الإنسانية والتوحش، الانتماء الحضاري والارتماء في حضن العدو، الخير والشر، الجمال والقبح.
وعلى مدار الأعوام الماضية، لم تدخر سلطة السيسي جهدًا في محاولة اغتيال الرئيس محمد مرسي، والنجم محمد أبو تريكة، في الذاكرة والوجدان المصريين، ست سنوات لم تتوقف آلة الشيطنة والتشويه ومصانع الأكاذيب والتلفيقات، واختراع قضايا التجسس والتخابر، والمصادرة والتكفير والتخوين.. ولكن ذلك كله لم يكن سوى قبض ريح، بل ارتدّ عكسيًا، وزاد الجماهير قناعةً بأن الرئيس، والنجم، اللذيْن انتخبتهما الجماهير بكل حرية ونزاهة، يمثلان النموذج الأنقى والأكثر نصاعةً لمصر الحقيقية.
بعد استشهاد الرئيس مرسي مباشرة، كان السيسي يمتطي صهوة أوهامه، متصوّرًا أن بهرجة الحفل الضخم في افتتاح البطولة الأفريقية ستصنع له حضورًا جماهيريًا، على حساب تغييب الرئيس مرسي، فكانت الصدمة أن الرئيس الشهيد يزداد حضورُه، وتترسخ إقامته في الذاكرة وفي الوجدان، وتطغى مواكب العزاء فيه والصلاة عليه بأربعة أنحاء المعمورة على الزفة المبتذلة للجنرال المبتذل في منصة استاد القاهرة.
ثم تأتي لعنة الدقيقة 22 من كل مباراة، بدءًا من المباراة الأولى للفريق المصري، فيهزم الهتاف لاسم محمد أبو تريكة جبروت الدولة الأمنية، بقمعها واستبدادها وبلادتها، ثم تتوالى غارات الدقيقة 22 في مباريات المنتخبات العربية، فتهدم حصون النظام الانقلابي وتتحول مدرجات البطولة إلى تظاهرة للجماهير العربية، نيابة عن الجماهير المصرية المقموعة التي بات إقدامها على التظاهر مساويًا لموتها، وهتافها للحق والخير والجمال، وأبو تريكة، أقصر الطرق إلى السجن والاعتقال.
الصحيح أن أبو تريكة ليس سياسيًا، أو جزءًا من اللعبة السياسية، ولكن القدرة الفطرية لدى الجماهير على التمثل والترميز والإحالة حوّلته إلى أيقونةٍ للعدل وللجمال، بمواجهة الظلم والقبح، وصار، على الرغم من أنفه وأنف كارهيه، هتافًا أو شعارًا تطلقه الجماهير في وجه السلطة، باعتبار ذلك نوعًا من المقاومة السلمية والاحتجاج غير العنيف على المسار الذي تمثله سلطة غير شرعية.
وكما قلت سابقًا، فإن محمد أبو تريكة يتجاوز كونه أيقونة لكرة القدم والرياضة، ليكتسب قيمة أخلاقية، ومعنى إنسانياً، ومعلماً حضارياً، يتوقف عنده التاريخ بكل أدب و تقدير. كما تعرف الجماهير العربية جيدًا أنه التجسيد الحقيقي لمحتوى مصر الحضاري والتاريخي والأخلاقي. ولذلك حين تهتف باسمه، فإنها تعبر، في اللحظة ذاتها، عن شوقها إلى مصر الحقيقية التي غيبها الأوغاد في دهاليز التقزم والتبعية والتطبيع.
أضف تعليقك