بقلم قطب العربي
من مفارقات السياسة، أن يحدد الإخوة السودانيون اليوم الأحد لانطلاق موجة تظاهر كبرى ضد الاستبداد (في مناسبة انقلاب 30 حزيران/ يونيو 1989)، بينما أهل 30 حزيران/ يونيو المصريين يلعنون (علنا أو سرا) ذلك اليوم؛ الذي أجهز على الحلم الديمقراطي الذي جعلته ثورة يناير حقيقة قائمة، أنتجت رئيسا مدنيا لأول مرة في تاريخ مصر، وانتجت برلمانا حرا، ورفعت الحريات العامة إلى أعلى سقف لم تبلغه من قبل.
مع حلول الذكرى السنوية السادسة لنكبة يونيو الثانية هذا العام، كما في الأعوام الثلاثة الماضية تزاد حالة الوعي، ويزداد إدراك الكثيرين ممن شاركوا في تلك المظاهرات بالخطأ والندم عليه، ويمتلك البعض شجاعة الاعتراف بالخطأ وإعلان الندم، بينما لا يزال البعض يتملكه الكبر فيخفي ندمه، أو يحاول انتحال الأعذار لنفسه، وهناك فريق ثالث كان يدعي امتلاك ناصية الفهم والحكمة، وكان من بين عرابي 30 حزيران/ يونيو، وممن أسبغوا عليها وصف الثورة؛ تنازلوا هذا العام عن وصفها بالثورة إلى منزلة انتفاضة. والحقيقة أن حالة الإنكار التي يعيشها البعض حتى الآن لجريمة 30 حزيران/ يونيو؛ هي التي تقف حائلا دون إنقاذ مصر من حكم العصابة العسكرية الإنقلابية، فالتشخيص الصحيح هو الخطوة الأولى والضرورية لوصف العلاج الصحيح، ومن ثم الأمل في الشفاء.
في مقابل هذا المشهد الكارثي الذي أورد مصر المهالك التي تعيشها حاليا، هناك مشهد آخر يتمثل في الصمود الأسطوري لمن أدركوا مبكرا خديعة 30 حزيران/ يونيو، وقاوموا الانقلاب العسكري منذ لحظاته الأولى، ودفعوا في سبيل ذلك (ولا يزالون) أثمانا باهظة، وآلاف الشهداء، وعشرات الآلاف من المعتقلين والممطاردين والمفصولين، والمصادرة أموالهم وممتلكاتهم.
الصمود ليس غاية في ذاته، ولكنه خطوة ضرورية على طريق الوصول إلى النصر.. والصمود ليس أمرا سهلا، بل يحتاج إلى مقومات أساسية للحفاظ عليه، وحين تختفي هذه المقومات فلا نتوقع استمرار الصمود. والذين يتندرون الآن على حديث الصمود، وأخص بالذكر من ينتمون لقوى الثورة والشرعية هم يفتّون في عضد الصامدين بغير قصد، وواجبهم الحقيقي هو المساهمة في دعم هذا المسار وتطويره لتجني مصر ثماره.
ملحمة صمود أسطوري لم تتوقف، واجهت كل الضغوط وكل صنوف القمع والتشويه والتنكيل، قادها أول رئيس مدني منتخب؛ ظل سجينا في حبس انفرادي طيلة ست سنوات، تعرض خلالها لمساومات وضغوط وتهديدات لم تتوقف، صرخ بها في وجه المحكمة أكثر من مرة دون مجيب، وتعرضت حياته للخطر أكثر من مرة، حتى تم التخلص منه بسبب صموده وتحمله تلك التهديدات والضغوط ورفضه تقديم أي تنازلات، وكيف له أن يقدم تنازلات وهو الذي أوصى المصريين برفض ذلك؛ في آخر كلماته التي أصبحت مصابيح تنير الطريق.. "أوعوا الثورة تتسرق منكم باي حجة، الحجج كتير، والسحرة كتير، الثورة والشرعية ثمنها حياتي أنا".. "ليعلم أبناءنا أن آباءهم كانوا رجال لا يقبلون الضيم ولا ينزلون على رأي الفسدة، ولا يقدمون الدنية في دينهم أو وطنهم أوثورتهم أو شرعيتهم".
إلى جانب الرئيس الشهيد، هناك عشرات الآلاف من السجناء الصامدين، الذين رفضوا تقديم أي تنازلات أيضا، ورفضوا التوقيع على إقرارات توبة ثمنا لخروجهم من السجون، رغم ما يتعرضون له من تعذيب ممنهج وتنكيل وإهمال طبي أودى بحياة 830 سجينا خلال السنوات الست الماضية، وتدهور الحالة الصحية للمئات، بل تعرض الكثيرون لأمراض نفسية منها الجنون (بسبب شدة التعذيب)، وخلف هؤلاء السجناء وقفت أسر صامدة قنعت بحد الكفاف من العيش رغم أنها أسر كريمة، كانت تعيش حياة جيدة من قبل، واليوم حرمت من عائلها، فاضطر الأبناء والبنات والإمهات للعمل طلبا للحد الأدنى للحياة، ومع ذلك لم تهن هذه الأسر رغم ما تعانيه، وظلت حائطا صلبا في ظهر السجناء، ولا يعيب هذه الأسر أو بعضها أن تبدي غضبها لما آلت إليه الأوضاع، وطلبهم بالتحرك من أجل السجناء وإطلاق سراحهم. فهذا شعور إنساني طبيعي جدا، كما لا يعيب السجناء الصامدين توجيه نداءات لمن هم خارج السجون بالتحرك لإنقاذهم فهم بشر، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ومن واجب الأحرار خارج السجون فعلا تكثيف تحركاتهم لهذا الغرض الذي لا يختلف عليه أحد.
وإلى جانب الرئيس الشهيد والسجناء الصامدين، هناك ملايين المصريين الرافضين للظلم، والذين ظل الكثيرون منهم يشاركون في مظاهرات جابت شوارع القاهرة والمحافظات، لفترة طويلة بعد الانقلاب؛ واجهت الرصاص الحي الذي أطلق عليها، سواء من رجال الشرطة أو البلطجية المتعاونين مع الشرطة. ورغم أن هذه المظاهرات تناقصت تدريجيا، ولم يبق منها إلا بعض المظاهرات الرمزية كل أسبوع في بعض المناطق، بسبب القمع الشديد الذي لم يكن يرحم شيخا أوإمرأة او طفلا، إلا أن ذلك لا يعني اختفاء أو غياب الغضب من نفوس الرافضين للإنقلاب، ولا يعني أن النظام نفسه أصبح يستشعر الأمن والاستقرار التام، العكس هو الصحيح، بدليل عدم السماح بالتظاهر في مصر عموما حتى لا يظهر حجم الرافضين، وعدم السماح بجنازة شعبية للرئيس الشهيد محمد مرسي؛ حتى لا تتحول إلى استفتاء شعبي جديد لصالحه ولغير صالح السيسي.
ست سنوات من القهر غير المسبوق كانت كفيلة بأن تقضي على روح المقاومة تماما، كانت كفيلة بتدمير النفوس تماما.. كانت كفيلة بانفراط عقد أكبر جماعة قاومت الانقلاب، وهي جماعة الإخوان التي تعرضت لأكبر الضربات، لكنها استطاعت امتصاص تلك الضربات، واستطاعت توفير الحد الأدنى لمقومات الصمود، واستطاعت إرباك النظام حتى هذه اللحظة حتى، وإن لم تستطع اسقاطه، فالأمر أكبر منها، ويحتاج تضافر جهود كل القوى الوطنية، كما أن الأمر يتطلب تغيرا في موازين القوى المحلية والإقليمية. وحتى يتم ذلك، فإن واجب مناهضي النظام هو البقاء في مناوشاتهم له، والسعي لتنظيم صفوفهم، وتوحيدها، وامتلاك أدوات القوة السلمية، وصناعة التحالفات السياسية الضرورية محليا وإقليميا ودوليا، وصياغة مشروع مستقبلي يطمئن الشعب وكل الفئات الخائفة؛ انتظارا للحظة تغيير قادمة لا محالة.
أضف تعليقك