بقلم: عادل راشد
نتخيل لو أن الرئيس مرسي خضع لشروط العسكر وطلبات الأمريكان"؛ وقبل بكلام آن باترسون (يقبل شروطنا وسنفتح له حنفيات الخليج)!!
نتخيل أنه قَبِلَ أن يكون رئيسا صورة فقط، طلبا لراحته وتأمينا لسلامته!!
نتخيل أنه هادن أو انبطح!!
ما الذي كان سيعنيه مفهوم القيم والمبادئ ساعتها؟؟
ما الأثر الذي كان سيحدثه في نفوس الناس؟؟
ما حجم اليأس والإحباط الذي كان سيصيب الأمة كلها وليس المصريين وحدهم؟!
هل كان يمكن لأحد أن يتكلم حتى الآن عن الثورة ومكتسباتها؟؟
هل كان يمكن لأحد أن يتكلم عن القيم والمبادئ والحرية والكرامة؟!
إنّ صمود الرئيس هو الذي أعطى للجميع في الداخل والخارج أن يستمر في المطالبة بتحقيق أهداف الثورة: عيش وحرية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية.
إنّ صمود الرئيس وعدم انكساره، هو الذي فضح الانقلابيين ووصمهم بالعار حتى يومنا هذا، وسيظل.
إن استشهاد الرئيس في سبيل المبادئ، هو الذي جعلها حيّة لا تموت.
إنّ العظماء قد يصنعون التاريخ بعد رحيلهم أكثر من صناعته حال حياتهم.
وتظل الكلمات التي دفع صاحبها حياته ثمنا لها، لها طعم آخر، بل تُنفخ فيها الحياة وتَنفخ في الآخرين الحياة.
مرسي العملاق الذي أراد البعض أن يُقَزّمه.
مرسي كان يمثل نموذجا للتحرر الوطني وعدم الخضوع على مستوى الدولة وعلى مستوى الأمة.
على مستوى الدولة، قال: "من لا يملك قوته لا يملك إرادته"، وقال: "علينا أن ننتج غذاءنا ودواءنا وسلاحنا".
على مستوى الأمة، لم يرضخ للعدوّ الصهيوني، بل قال لهم: "على هؤلاء أن يدركوا أن مصر اليوم غير مصر الأمس"، وقال: "لن نترك غزة وحدها". وأرسل رئيس وزرائه د. هشام قنديل تحت القصف، وهاتف الرئيس الأمريكي أوباما بلهجة لم يتعودوها من حاكم عربي؛ إذ قال له: "يجب" أن يتوقف هذا العدوان فورا.
وعن سوريا قال: "لبيك يا سوريا"، وفتح أبواب مصر للسوريين المظلومين، وخاطب الشعب المصري: "أوصيكم بإخوانكم خيرا"، وأعطى تعليمات للحكومة بمعاملة السوريين نفس معاملة المصريين.
مرسي الحاكم القدوة، الذي لم يتقاضَ راتبه طوال مدة حكمه، ولم يأكل مرة على نفقة الدولة، وظل في شقته المستأجرة، ولم ينتقل هو وأسرته لقصر الرئاسة.
مرسي الذي اصطحب زوجته ولكنها لم تركب معه، بل حجزت تذكرة الطائرة على نفقتها؛ لأنه يرى أنها ليست موظفا عاما لدى الدولة، ولا هي ذاهبة في مهمة رسمية!!
مرسي الذي ماتت أخته في مستشفى أميري، ليس مثل كل المصريين، بل مثل أفقر فقراء المصريين، وأصدر تعليماته بعدم العزاء في الصحف أو وسائل الإعلام.
مرسي الذي لم يعين أحدا من أهله في مناصب على غير استحقاق، وما طلب لنفسه ولا لمن يمت له بصلة قرابة أي ميزة عن شعبه.
مسألة الشرعية
يتصور البعض أنه بغياب الرئيس مرسي قد طُويت صفحة الشرعية، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على غياب الفهم بمعناها.
فالشرعية التي قال مرسي عنها "لا بد أن نحافظ على الشرعية حتى لو كان ثمنها حياتي"، الشرعية التي دفع الرئيس حياته ثمنا لها، هل انتهت باستشهاده؟
أيُعقل أن يدفع هو ثمنها ثم نقول نحن بموتها؟؟
إن الشرعية شرعية أفكار ومبادئ وشرعية غايات ووسائل، شرعية طلب الشعب لحريته وكرامته، والذود عن قِيَمه ومبادئه وحماية حدوده، وصيانة مقدراته ومستقبل أولاده، شرعية اختيار الشعب لمن يمثله، شرعية تداول السلطة وسيادة الشعب، شرعية الحقوق والواجبات، شرعية المساواة والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، شرعية امتلاك الشعب لقراره وإنفاذ إرادته.
الفرقاء والشركاء
حال حياة الرئيس مرسي رغم صموده الأسطوري بالمعتقل وفي حبسه الانفرادي هذه السنوات، كان كلما وُجهت دعوة للاصطفاف جعلوا شرعية الرئيس عائقا؛ فالبعض يرى ضرورة عودته (رغم عدم قدرتهم على إعادته)، ولكنهم يصرون على الطرح وإن استحال تنفيذه، ويرى آخرون عدم قبولهم بذلك أبدا، وتظل المناقشات العقيمة التي تنبئ عن السطحية وعدم الإدراك، وتفضح فهم من يدّعون الثورية، إذ يُحيلون الأمر من تنافس لأجل إقرار المبادئ واسترداد الحقوق والحريات وتحرير الشعب من ريقة الاستبداد والاستعباد، إلى صراع على سلطة متوهمة. وحتى لو أضحت حقيقة، فالقبول بها هو نوع من الانتحار السياسي؛ لأنها تَرِكَة ثقيلة بل أثقل مما يتخيل الكثيرون.
والأصل في الثائر الحق التجرد، إذ يُجاهد من أجل تحرير إرادة الشعب ليختار من يشاء، حتى لو لم يختر هذا الذي جاهد ودفع الأثمان الباهظة لأجل تحريره.
على الجميع أن يُدرك أنها ليست قسمة غُنَمَاء بل قسمة غُرَمَاء، وأن يتحرروا من الأنانية السياسية وقِصَر النظر وضيق الأفق والصدر.
أَمَا وقد قضى الرئيس نحبه ووفّى نذره ولقي ربه، فهل لكم من سبب تتنازعون عليه!!
ومهما أنكر البعض أو تجمّل، فإن الخلاف المحتدم المعلن منه وغير المعلن، إنما هو بين الإسلاميين، وخصوصا الإخوان المسلمين، وبين بقية الفصائل السياسية. ولا يقل أي فريق عن الآخر في غَبش التصور والعناد في المواقف، مهما تم تجميلها بكلمات يعلم كل فريق عدم صدقها ولا دلالتها على الواقع، ويتحمل الجميع ضياع ثورة الشعب (لا قدر الله) ووِزر المظالم التي تقع على أبنائه مما تنوء بحمله الجبال الرواسي.
وبناء عليه:
1- ينبغي على الإسلاميين، وخصوصا الإخوان، أن يُدركوا أن مسألة حيازة العدد الأكبر من الأصوات تعني استحقاق الحكم، إنما ذلك في الديمقراطيات المستقرة التي دفعت شعوبُها أثمانها الباهظة حتى وصلت إليها، أما في حالتنا ودول منطقتنا، فإن ثمة عينا مختلفة ينبغي أن ننظر بها من خلال الواقع المعاش وظروف المنطقة، وتوازن القوى الداخلي والخارجي وقوة الدولة العميقة، وهو ما أكدته التجربة العملية التي انتهت بالانقلاب العسكري الدموي.
وكما أن الفتوى الشرعية تُقدّر زمانا ومكانا وشخصا، فإن الفتوى السياسية لا تقل عنها، بل تزيد عليها في مراعاة كل ذلك لأنها تتصل بالمصالح العليا، فعليها أن تُعمل مبدأ "سد الذرائع" السياسية، ومبدأ "أخف الضررين وأرجى المصلحتين"، والتدرج في الوسائل المشروعة للوصول للأهداف المنشودة.
ولأنه قد ثبت (مرحليا) أن حيازة أغلبية الأصوات لا يعنى حيازة أدوات الحكم أو الوسائل المعينة عليه، فينبغي أن تتنازل عن فكرة المحاصصة بالوزن النسبي، فلم تجنِ من ورائها إلا الابتلاء حسب وزنها النسبي، وأن التأثير لا يكون بالأعداد فقط، فرُبّ شخص أو فصيل صغير إن لم يكن له من التأثير الإيجابي الكبير؛ فربما له من التأثير السلبي الكثير مما يعيق أعظم مشروع، وهو مما أضحى واضحا لا يحتاج دليلا.
2- على القوى والفصائل السياسية الأخرى، مع الاحترام الشديد لكلها أو جُلّها، أن تعلم في المقابل أن الإسلاميين عموما، والإخوان خصوصا، هم الأكثر عددا والأدق نظاما والأغزر تنوعا والأقدم تجربة والأقدر على تحريك الجماهير؛ لما لهم من رصيد في نفوسهم (وإن تآكل بعضه)، فلا يمكن بأي حال إحداث تغيير أو إعمال أي أداة من أدوات الثورة بدونهم، وإلا ظل كلام هذه القوى (إن اجتمعت) حبراّ على ورق؛ تنتظر من يقوم على تنفيذه. ومن ثم ينبغي أن تقبل بهذا وتتعامل مع الواقع، ولا تتغاضى عنه أو تتعالى عليه، وألا تظل راكبة حصان الهروب الذي يلبس ثوب المراوغة بالخوض في الأخطاء واجترار الماضي الذي لم تقل ذنوبهم السياسية فيه عن الإخوان، بل قد تزيد عليها بكثير.
3- ينبغي أن يتجرد الجميع ويعلموا أنها منافسة أو تعاون أو تنسيق أو اصطفاف من أجل المبادئ، وليس صراعا سلطوياّ بغيضا.
4- من هذه المنطلقات يجلس الجميع على مائدة الحوار المتجرد للبحث في الوسائل المشروعة والممكنة، أو البحث في إيجادها لاستنقاذ الوطن مما آلت إليه الأمور، وأن يدرك كل شخص وكل فصيل أنه بعدم تجرده أو بقصر نظره أو بضيقه ذرعا بالآخرين؛ سيظل هذا النظام الغاشم جاثما على صدور الجميع، ولن يُحصّل أحدٌ أي مغانم (إن أراد)، بل ستكون المغارم، والمغارم فقط.
أضف تعليقك