• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: د. عبد التواب بركات

اتهم الجنرال السيسي المصريين والأمة الإسلامية بالإسراف في الطعام، وقال في احتفالية ليلة القدر التي أقامتها وزارة الأوقاف بمركز الأزهر للمؤتمرات بمدينة نصر في الثامن والعشرين من رمضان: "لما يبقى في آية في القرآن بتقول كلوا واشربوا ولا تسرفوا.. هل النهاردة يعني، أمة الإسلام، لما نيجي نحطها في وسط أمم العالم، هنجدها إن هيَ الأقل في الأكل والشرب والإسراف؟!".

الإسراف في الكباب!!

اتهام السيسي تزامن مع حملة إعلامية لصحف أجنبية وقومية تُظهر إسراف المصريين في استهلاك الطعام خلال شهر رمضان، بالرغم من كونه شهرا للصيام وليس لزيادة الطعام. وتركز الحملة على إلقاء الطعام في صناديق القمامة خلال الشهر الفضيل مع تزايد أعداد الجوعى.

مجلة الإيكونوميست البريطانية نشرت في منتصف الشهر الكريم تقريرًا بعنوان: "بطون متخمة، وصناديق قمامة ممتلئة.. الدول العربية تهدر أكوام الطعام خلال رمضان"، واستهلت المجلة التقرير بوصف إفطار أحد المصريين، ويدعى أحمد توفيق.

وقال تقرير المجلة إن توفيق أفطر كما يفعل أسلافه منذ قرون، بتناول حبة تمر، ثم استدار إلى أطباق الطعام المكدسة أمامه وبعد عشرين دقيقة خرج توفيق لتدخين سيجارة وترك خلفه الخادم يجمع نصف طبق من الكباب والأرز لم يُمس باليد، ويعقب على ذلك بقوله: "قبل الإفطار تشعر وكأنك ستلتهم أكل شخصين".

زعم الكاتب أنه استند إلى دراسة علمية أجرتها شركة بحوث المعلومات الاقتصادية التابعة للمجلة، وعممت حالة توفيق، الذي يلقي الكباب والأرز في الزبالة، على الشعب المصري. وحالة توفيق وإن صحت فهي فردية ولا تمثل إلا صاحبها.

ولا ترقى إلى أن تكون دراسة من الأساس، لأنها تفتقر إلى معايير دراسات المسح الغذائي للمجتمع، والتي تشترط العشوائية وعدم الانتقاء، والشمولية التي تمثل كل شرائح المجتمع تمثيلًا نسبيًا، ولا تغفل الفترة الزمنية والتي يجب أن تمثل السنة كلها ولا تكتفي وجبة واحدة ولا يوم واحد، ولا شهر بعينه في السنة كلها.

ذلك أن حالة توفيق لا تنطبق على 95% من المصريين، وقد سقط 60% منهم تحت خط الفقر منذ 2014، بشهادة البنك الدولي، كما أن افتراض أن الكباب وجبة حاضرة على كل موائد المصريين في رمضان وهم مرفوض، وقياس فاسد، واستدلال خاطئ لا يقع فيه صحفي حديث التخرج، ولا طالب يدرس مبادئ الاقتصاد، فضلًا عن باحث يعمل في شركة أبحاث اقتصادية في بريطانيا، ما يجعل الدراسة مغرضة ومفبركة.

المصري الأكثر تبذيرًا

وبعد تقرير الإيكونوميست بأسبوع، نشر موقع "بي بي سي" البريطاني تحقيقًا مشابهًا بعنوان: "رمضان في العالم العربي: بين ارتفاع معدلات هدر الطعام ومعدلات الجوع". وركز التقرير على أن: "مصر تأتي بين أكثر دول العالم إهدارًا للطعام حول العالم، حيث يهدر المصري الواحد سنويا نحو 73 كيلو جرام من الطعام!".

صحيفة الأهرام الحكومية المصرية نشرت هي الأخرى تحقيقًا أكثر خيالًا بعنوان: "المصريون فى رمضان.. إنفاق 40 مليار جنيه على المواد الغذائية و70% زيادة في معدل الاستهلاك"، وقالت إنه: "على عكس ما يدعو إليه شهر رمضان، ترتفع معدلات استهلاك السلع الغذائية بنسبة 70%عن باقي شهور السنة".

وأشارت الصحيفة الحكومية إلى تقرير صدر عن غرفة الصناعات الغذائية، التابع لاتحاد الصناعات المصرية، يقول إن: "معدلات استهلاك السلع الغذائية خلال رمضان ترتفع بنسبة 70%عن باقي شهور السنة، ويرتفع استهلاك منتجات اللحوم والدواجن، بنسبة 50%، وأنه في خلال الأسبوع الأول وحده في رمضان يتناول المصريون حوالي 2.7 مليار رغيف خبز، و10 آلاف طن من الفول، وأكثر من 72 ألف طن "فراخ".

وادعت صحيفة الوفد المصرية أن: "المواطن المصري يتصدر قائمة الدول الأكثر هدرًا للطعام على مستوى العالم العربى فى الوقت الذى يتصدر فيه الأمريكى قائمة العالم فى هدر الطعام!!".

مغالطات

بفرض دقة الأرقام التي تحاول التقارير السابقة تضخيمها، فإنها تعني أن المواطن المصري ينفق 400 جنيه على الطعام في شهر رمضان، بمعدل 14 جنيها في اليوم، وهو مبلغ لا يكفي سوى وجبة واحدة من الفول والطعمية.

وبحسب التقرير، يستهلك المواطن 3.6 رغيف خبز في اليوم، ومعلقتين فول بمعدل 14 جرام في اليوم، ونصف كيلو أرز في الشهر، وأقل من نصف دجاجة في الأسبوع، ما يكشف عن حجم البؤس والفقر الذي يعيشه المصريون في شهر الصيام، وليس الإسراف كما تحاول تصويره.

وبافتراض أن استهلاك المصريين يزيد في رمضان بمعدل 70%، فهذا يكشف معاناتهم في غيره، إذ لا يتجاوز ما ينفقه أحدهم على الطعام عن عشرة جنيهات في اليوم، وهو مبلغ لا يكفي لإطعام طفل صغير!.

حال المصريين الحقيقي تنقله صحيفة التايمز البريطانية بدون فبركة للأرقام ولا مجاملة للحكام، في مقال بعنوان: "فقراء مصر يفطرون في رمضان على بقايا الأطعمة المتعفنة"، ورصدت في التقرير كيف أن عشرات الملايين من السكان في مصر يعيشون في فقر مدقع طال 60% منهم، وأن العديد من سكان القاهرة يفطرون على بقايا الأطعمة، والبطاطس القديمة وعظام الدجاج والجبنة المتعفنة التي تباع للفقراء في سوق مدينة كرداسة جنوب القاهرة.

يحكي المقال عن موظف حكومي قوله: "إن شراء دجاجة كاملة يعد قرارا متهورًا، بالرغم من أن راتبه الشهري 2000 جنيه، 117 دولار، وهو مرتب لا يحظى به كثير من المصريين لكنه لا يكفيه، لذا فهو يشتري كيلو جراما واحدا فقط من أرجل الدجاجة ورقابها وأجنحتها مرة في الأسبوع لإطعام أولاده الثلاثة".

اتهامات دينية

الصحف القومية والقنوات الفضائية أفردت للمشايخ مساحات إعلامية يتهمون فيها المصريين تارة بالإسراف وبقضاء النهار فى البحث عن أنواع الأطعمة والأشربة وجمعها ثم قضاء الليل فى تناولها، وتارة بالترغيب في الزهد والاقتصاد، وأخرى بالحث على التبرع بالمال للمصلحة العامة بدلًا من التوسع في الأكل والشرب والوقوع في دائرة المبذرين وإخوان الشياطين.

هؤلاء المشايخ يخدعون المواطن وينافقون الحاكم، ولا ينتقدون الفشل الحاصل في كل مناحي الدولة.

يوبخ الجنرال شعبه ويقول لهم: "احنا فقرا أوي"، ثم يفتتح مشروع إسكان لهؤلاء الفقراء وهو يسير بموكب سيارات فارهة على سجاد أحمر يفترش عرض الطريق وطوله في مشهد إمبراطوري، ثم يحث المصريين على التبرع للدولة والذهاب للعمل مشيًا على الأقدام، ثم لا يتهمه أحدهم بالتناقض ولا بالتبذير.

يحفر تفريعة في قناة السويس تكلف المصريين 8 مليارات دولار وفوائد بلغت 4 مليارات أخرى، بغرض زيادة دخل القناة من 5 مليارات إلى 100 مليار، وبعدها ينخفض دخل القناة إلى 4.8 مليارات، ويبرر هذا الفشل بأنه كان من أجل رفع الروح المعنوية للمصريين، ولا ينتقده أحدهم.

يشتري أسلحة بـ 26 مليار دولار من روسيا وفرنسا وألمانيا، مع غياب العدو التقليدي، ومعظمها صوارخ أرض جو، وحاملات طائرات لا تناسب الحرب الدائرة في سيناء، ولكن من أجل شراء شرعية دولية، والتغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان المصري، بحسب معهد استوكهولم لبحوث السلام، ولا ينتقده أحدهم بتضييع الأمانة.

يقترض ضعف ما اقترضته الدولة في 50 سنة، ويرفع الدين الخارجي إلى 100 مليار دولار، بدون أي مردود اقتصادي، منها 27 مليار دولار من روسيا نظير بناء مفاعل نووي لتوليد الكهرباء، بالرغم من وجود فائض قدره 25% عن الاستهلاك، ولا ينتقده أحدهم بالسفه والخيانة.

لم يلفت نظر المشايخ كل هذا تبذير، الذي هو إنفاق للمال فيما لا ينفع، وهو جريمة في حق المال العام، لا تقارن بالإسراف الذي يرمي به السيسي المصريين، فهو إن صح فزيادة في النفقة على حاجات ضرورية ومن مال صاحبه الخاص.

خداع الجماهير

تكفل الشيخ محمد الغزالي رحمه الله بالرد على مشايخ السلطان في كتابه الإسلام المفترى عليه بقوله: "كل دعوة تحبب الفقر إلى الناس أو ترضيهم بالدون من المعيشة أو تقنعهم بالهون في الحياة أو تصبرهم على قبول البخس والرضا بالدنية فهى دعوة فاجرة يراد بها التمكين للظلم الاجتماعي وإرهاق الجماهير الكادحة فى خدمة فرد أو أفراد، وهى قبل ذلك كله كذب على الإسلام وافتراء على الله".

ما جاء في مقال الإيكونوميست أن: "الحكومات ترى في إهدار الطعام على نحو ما يفعل توفيق خطرًا أمنيًا، ما يجعل وسائل الإعلام التابعة للدولة حريصة على حث مواطنيها على الحد من الإسراف في الطعام"، يكشف السر وراء الحملة المنظمة لاتهام المصريين بالإسراف في الطعام وتحميلهم مسئولية الفقر الذي يكابدونه.

إنها الإستراتيجية التي كشف عنها ناعوم تشومسكي لمواجهة تمرد الجماهير والسيطرة عليهم من خلال إشعارهم بالذنب وجعل الفرد يظن أنه المسئول الوحيد عن فقره وتعاسته لسبب فيه هو، سواء كسله ونقص قدراته أو إهماله واستهتاره، وليس الحاكم الفاسد والرئيس الفاشل. وهكذا، بدلًا من الثورة على النظام، يتشتت المواطن ويمتهن نفسه ويشعر بالذنب، وهو ما يولد في الجماهير الاكتئاب والسكون بدل الحركة والثورة.

أضف تعليقك