بقلم: د. سيف الدين عبد الفتاح
تطرّق مقال سابق لكاتب هذه السطور إلى هوامش على الظاهرة الاستبدادية، في سياق حديثٍ عن الديموقراطية والتحول السياسي، وكذا عن الحكم الرشيد، باعتبارها من الموضوعات والقضايا الأثيرة لدينا في البحث والتناول، وكأن هذا من الموضوعات التي تفرضها أجندة علم السياسة، واهتمامه بقضية بناء النظم السياسية، والعمل على تمكين المؤسسات اللازمة لذلك. كان ذلك أمرا مقبولا داخل الجماعة العلمية في حقل العلوم السياسية، ربما من باب الأماني والرغبات والتمنيات، وكان أستاذنا المستشار طارق البشري يذكّرنا ويحثنا، فيما نهتم بالديموقراطية والحكم الرشيد؛ على ضرورة أن نؤسس علما لفهم الاستبداد والظواهر المقترنة به، أطلق عليه علم الاستبداد؛ ذلك أن فهم الظاهرة الاستبدادية، وتفكيكها، يعد متطلّبا ضروريا ومسبقا بشأن عمليات التحوّل الديموقراطي والحكم الراشد.
ربما علينا من أجل ذلك مواصلة تشريح الظاهرة الاستبدادية، وعطفا على ما سبق من الحديث عن الحالة العشوائية، فإن هناك بيئة داعمة لتلك الظاهرة الاستبدادية والتمكين لها؛ ذلك أن السلطة المستبدّة، السادرة في طغيانها، تعلم يقينا أنها تبني مجتمع الزيف الكامل والتزوير الشامل وتشكيل الرضا الكاذب، فيما تظل في حالٍ من التوجس والريبة من الشعب والجماهير، وتعرف أن الجماهير تتمنّى اللحظة التي تزول فيها السلطة، سواء بأيديها أو بأيدي القدر. ولذلك تأخذ السلطة احتياطات أمنية كثيرة، ومبالغا فيها، على قدر خوفها من الجماهير وعدم ثقتها بها، أو احتقارها لها. أتذكّر حديث مدير المخابرات المصرية الذي سُرّب بليل، وهو كاتم سر عبد الفتاح السيسي ومدير مكتبه، واصفا ذلك الشعب بـ"الجعان المتنيل بنيلة"؛ ليُكمل أحد قياديي المجلس العسكري: "إحنا اللي بنقعَده (أي الشعب) ونقومه، ونأخذ اللقطة ونلبسه العمة"؛ في إهانةٍ كاملةٍ واستهانةٍ شاملة بالشعب ومقدراته، بفعله وفعالياته.
من جوف هذا التصور للشعب والجماهير؛ تبالغ السلطة التي تحتقر الجماهير كثيرا في الحلول والاحتياطات الأمنية، فهي ترى في الجماهير بوادر الخداع والغدر، كما أنها ترى هذه الجماهير غير جديرة بالحوار السياسي أو الثقافي. وإنما هي تستحق التأديب بعصا غليظة، متمثلة في بطش الجهاز الأمني لأي نبضةٍ تبدر منها، حتى لا تعتاد ذلك خروجا على النص الذي يجب أن تؤديه أداءً علنيا، فهذه السلطة ترى في الجماهير أكبر عدو. ولذلك تعد العدّة لمقاومته وقهره، ولا تدع له فرصةً يفيق فيها، أو يستعيد وعيه وعافيته، وهي كذلك تعني، ضمن ما تعني، في حلقة أمنها أن الجماهير ملك خاص لها لا ينازعها فيه أحد، فإن نازعها أحدٌ قصمته، ومن حاول بث روح الوعي فيها اتهمته سلطات الاستبداد مبكّرا قاطعة الطريق عليه، ومن دافع عن مصالحها وسمته بالمزايدة والمتاجرة بهموم الشعب والجماهير، ومحاولة تعطيل مسيرة السلطة وسياستها لرفع المعاناة عن كاهل الجماهير وتحقيق الإنجازات من أجلها.
وكثيرا ما تقوم السلطة في هذه الأنظمة بعملياتٍ استباقيةٍ تشنها بما تهوى وترغب، وتركّب لها الحجج والأسانيد للتسويغ والتبرير. ومن أهم أهداف السلطة في عملياتها الاستباقية تلك هدفها إجهاض أي محاولةٍ حقيقيةٍ، أو متخيّلة، لتجمع الجماهير الغاضبة أو المطالبة بحقها، أو المتمرّدة على ظلمها، فتلجأ في سبيل ذلك إلى إصدار القوانين التي تحول دون أن تكون كتلة جماهيرية (الكتلة الحرجة) قادرة في الحاضر أو المستقبل على تحريك الجماهير الأوسع ضدها أو تكون لتجمعاتٍ خطرةٍ من وجهة نظر السلطة، بشكل يمكن أن تعتبر بعضها خطرا على "الأمن القومي"، وتحظر التجمعات والمسيرات، وتستخدم قوانين الطوارئ والأحكام العرفية التي تسمح بالحركة السريعة للسيطرة على أي بادرة تجمعٍ أو تظاهر؛ أو أي فاعليةٍ محتملة أو ممكنة، فالسلطة المستبدة غير المنطقية، أو غير الشرعية، أو غير الراشدة، لا تستطيع الاستمرار فترات طويلة، إلا إذا قامت بعمليات تزييف الوعى الجماهيري، فهي تريد أن تشكل هذا الوعي كي يقبل منظومة السلطة وتوجهاتها ومصالحها من دون الحاجة إلى الإفراط في استخدام القمع الأمني. لذلك هي في هذا السياق تشكل أجهزة الدعاية والإعلام والإعلان لدى السلطة، فيكون هذا مع الأمن قدمين للنظام، فتقوم هذه الأجهزة بالمبالغة في إظهار إنجازات السلطة وتبرير أفعالها، وتحويل هزائمها إلى انتصارات تاريخية، كما تضفي صفات البطولة والحكمة والتضحية على رمز السلطة المستبدّة، فهو ملهم، وهو الزعيم الأوحد، وهو الذي يصدر التوجهات، وتضع صورهم وتماثيلهم في كل مكان.. وهي حالة إعلانية بالغمر والتعبئة والتكرار والإلحاح، فحيثما ذهبت يطالعك وجه القائد أو صوره أو أقواله أو إنجازاته.
ويتحرّك صاحب السلطة شيئا فشيئا إلى سلوكٍ ادعائي ودعائي غير طبيعي، فيلبس قناعا يراه مناسبا لتحقيق هذا الهدف في استمرار السلطة أو توريثها بما يشكل وعي الجموع وتفكيرها في اتجاه مصالحه الخاصة.. إنه نوعٌ من دائرة التمثيل التي يجيدها أهل سلطة الاستبداد، يقدّم فيها صاحب السلطة دورا تمثيليا لتكتمل دائرة تزييف الوعي. ومع هذا الوضع، تبقى الصور المزيفة سيدة الموقف في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، في إطار من عبارةٍ تجعل الأمر برمته "كله تمام". ومن ثم، فإن أصحاب السلطة والسلطان يحاولون إعدام كل بارقة وعي لدى الجماهير، حتى تحافظ على عملية تكريس وعيها الزائف، وتنويم قواها وفاعليتها.
وفي إطار الصور المزيفة، تكون البيئة مواتية وقابلة للعزلة بين الطرفين، وإحداث حالة انفصال من خلال منطقة عازلة تشكلها "البطانة" التي لا يكون هناك اتصال بين السلطة والجماهير إلا بها أو من خلالها، وتصير الصورة في مجملها زائفة وغير حقيقية، حتى تسوء حالة الناس، وتتراكم أزماتهم، ويتعرّفون على الوهم المتحكّم في حياتهم، وتصير السلطة مطالبةً بتأدية واجباتها، أو القيام بإصلاح أو تغيير، فتواصل حركة زيفها في إطار ما تراها إصلاحاتٍ زائفة، أو تغييرات "ديكورية"، في محاولةٍ التفافية على حقيقة الإصلاح؛ ذلك أن حالة الزيف تلك تمثل بيئة خصبة، ليس فقط لتسويغ الكذب في ما يتعلق بالإنجاز وبيع الأوهام وتصدير الأحلام وصناعة الفناكيش الزائفة، فمن العجيب حقا أن ترى وتسمع من هذه السلطة حديثا مكرّرا مستمرّا لا ينقطع عن الإصلاح، فماذا يمنعها من إصلاح وهي تحكم وتتحكّم؟ إلا أن ذلك يندرج في خانة الغطاء الزائف والمزور، وهي في واقع أمرها وفعلها تحاول أن تدفع وتدافع عن فساد رموزها الذين يتساقطون، الواحد تلو الآخر، من اتجار بالبشر وآلامهم، بل وبحياتهم.
بين احتقار الشعوب ضمن إدراك سلطات الاستبداد الكامن والظاهر المستور والمعلن عنه، وصياغة الأمن المستباح في تمرير طبعةٍ أمنيةٍ تتواءم مع هذا الاحتكار للسلطة والاحتقار للشعب، ونتيجة تفاعل هذه الرؤى والإدراكات، تتولد طبعة تزييف الوعي، والحرص على تشكيله الزائف بإعادة تعريف مفاهيم سياسية كثيرة، و"فيرستها" بما يوافق الحالة الاستبدادية، والتمكين لاستقرارها واستمرارها. إنها بحق صناعة كبرى لعملية الاستخفاف بأضلاع ثلاثة في "المثلث الاستبدادي"؛ احتقار الشعوب، والطبعة الأمنية للسلطة الاستبدادية التي تتخذ أشكالا سمّيناها، "الأمن المستباح"؛ والوعي الزائف، وللظاهرة الاستبدادية هوامش أخرى تستحق المتابعة.
أضف تعليقك