بقلم.. قطب العربي
لم تكن الحالة الأولى للإفراج عن سجناء سياسيين في مصر منذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، لكنها كانت أكبرها، ولذا فقد فرضت نفسها على ساحة التحليل والتخمين لمعرفة دلالاتها، وما إذا كانت تمثل نهجا جديدا لنظام السيسي نحو التهدئة، أم إنها إعادة انتشار بالمفهوم العسكري (أي إخراج معتقلين وإدخال آخرين) لمواجهة التكدس الشديد في السجون المصرية (بلغ 400 في المئة حسب تقرير سابق للتنسيقية المصرية للحقوق والحريات)، أم إنها انحناءة عابرة لضغوط دولية ضمن حسابات سياسية أخرى للقوى الضاغطة، أم إنها مصيدة يتم من خلالها التعرف على أصدقاء وزملاء المفرج عنهم الذين قد تكون سلطات الأمن عجزت عن الوصول إليهم، أم لغير ذلك من أسباب!
القائمة الجديدة للإفراجات ضمت 560 سجينا ليسوا جميعا سياسيين، وإن كان منهم عدد كبير من سجناء الرأي. وقد شملت الأسماء تنوعا سياسيا كبيرا، بدءا بسجناء أحداث مجلس الوزراء (ينتمون للتيار الليبرالي)، وصولا إلى سجناء من كرداسة وناهيا والعدوة وسيدي جابر، وهم محسوبون على الإخوان، كما ضمت القائمة الكاتب الصحفي عبد الحليم قنديل، رئيس تحرير جريدة صوت الأمة السابق، وأحد الصحفيين المقربين جدا من السيسي، ولكن حكم عليه القضاء بالحبس ثلاث سنوات بتهمة إهانة القضاء، في بلاغ قدمه رئيس نادي القضاة السابق، القريب جدا من السيسي أيضا، أحمد الزند (والذي أقيل من منصبه بسبب زلة لسان). كما أن القائمة ضمت (وللطرافة) سبعة ضباط شرطة أدينوا بقتل أسرة كاملة في وضح النهار، وثبتت محكمة النقض عليهم الحكم، ولم يقضوا في الحبس سوى شهرين فقط. ويأتي الإفراج عنهم بعفو رئاسي لتأكيد مقولة سابقة للسيسي أنه لن يحبس ضابطا.
وقد لحق بهذه الموجة قرار آخر من النيابة بالإفراج عمن وصفوا بمعتقلي العيد، وهم السفير معصوم مرزوق والدكتور يحيى القزاز ورائد سلامة وعبد الفتاح البنا ونيرمين حسين، وجميعهم ينتمون للتيار المدني أيضا، بل يمثلون أعلى الرموز الثورية في هذا التيار في الوقت الحالي، وقد كانت لهم مواقف قوية ضد التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، وبعض القضايا الوطنية الأخرى. ولكن يلاحظ أن قرار الإفراج لم يشمل جميع المتهمين في القضية ذاتها، وهو ما يعني أن ملف القضية سيظل مفتوحا أمام القضاء، وهو ما يعني إبقاء المفرج عنهم تحت تهديد الحبس مجددا حسبما يرى النظام.
وفقا لمجمل التطورات السياسية والأمنية في مصر، لا يمكن اعتبار هذه الموجة تحولا في سياسات نظام السيسي باتجاه التهدئة، ذلك أنه في الوقت الذي أفرج عن هؤلاء المعتقلين، كانت قواته تعتقل آخرين، مثل أحمد ماهر، مؤسس حركة 6 إبريل (تم إخلاء سبيله) وشقيقه مصطفى ماهر الذي طلق السياسة منذ عدة سنوات ليتفرغ لرعاية أسرته، وكذا الناشط السياسي هيثم محمدين، زعيم حركة الاشتراكيين الثوريين، والشيخ محمود شعبان، الأستاذ الأزهري الذي سبق اعتقاله قبل سنوات ثم ها هو يعاد اعتقاله مجددا، وعشرات الإخوان ومناهضي الانقلاب الآخرين، وكذا اعتقال عدد كبير من رابطة مشجعي نادي الزمالك (الوايت نايت). بل إن قوات أمن النظام قتلت بدم بارد 12 معارضا من المخفين قسريا لديها، وقد تمت تصفيتهم ثأرا لحادث الحافلة السياحية التي تم تفجيرها أمام المتحف المصري قبل عدة أيام، كما صفت قوات الأمن آخرين من المخفيين قسريا في سيناء بمزاعم انتمائهم لتنظيم داعش.
لا يزال النظام محكما قبضته على المجال العام، رافضا فتح أي نافذة للتنفس حتى للقوى المعارضة في الداخل التي لا تعتبره انقلابا عسكريا، والتي تقبل مجرد المعارضة الإصلاحية التدريجية. ولا زالت سجون النظام تكتظ بستين ألف معتقل؛ يجري استبدال بعضهم بآخرين مراعاة للطاقة الاستيعابية للسجون، وأماكن الاحتجاز الأخرى (تشمل معسكرات ومديريات الأمن وأقسام ونقاط الشرطة.. الخ).
ولا تزال الشقة واسعة بينه وبين مناهضيه الذين لا يقبلون بأقل من اختفائه من المشهد السياسي، واستعادة المسار الديمقراطي الذي أنتجته ثورة الخامس والعشرين من يناير. وتتتابع تصريحات السيسي الرافضة لأي مصالحة مع رافضي الانقلاب، لأنه يدرك أنه شخصيا سيكون ثمنا لأي مصالحة أو تسوية سياسية، وبالتالي، فليس متوقعا من نظام يعيش في خوف دائم (مهما امتلك أدوات القمع) أن يتجه طواعية نحو تهدئة مع خصومه؛ لأنه لا يشعر بأي اطمئنان لتطور العملية السياسية، وقد شاهد بعينية كيف خلع المصريون حكم مبارك الذي لم يكن السيسي نفسه (كونه رئيسا للمخابرات الحربية) يتوقعه.
في تقديري أن ضغوطا أمريكية وأوروبية كبيرة وقعت على نظام السيسي ودفعته لهذه الإفراجات، وفقد نقلت جريدة المونيتور أن لجنة المخصصات المالية بمجلس النواب الأمريكي وافقت على مشروع قانون المساعدات ا?جنبية لسنة 2019-2020، والذي قد يمنع وصول 260 مليون دولار من المعونة العسكرية التي تتلقاها مصر سنويا، إذ يشترط القانون أن يصدّق وزير الخارجية مايك بومبيو على أن مصر تتخذ خطوات لدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتطبّق إصلاحات لحماية حرية التعبير، وتطلق سراح المسجونين السياسيين، وتضمن خضوع قوات الأمن للمساءلة، وتلتزم بفصل السلطات وسيادة القانون، فضلا عن السماح لمراقبين أمريكيين بتقييم كيفية استخدام مصر للمساعدات. وهذه الشروط الجديدة هي تطور مهم بعد سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب في كانون الثاني/ يناير الماضي، للمرة الأولى منذ 2010، وهذا التطور قد يفسر الإفراجات الأخيرة كثمن للحصول على دفعة المعونة العسكرية، وليس كسياسة تهدئة مستمرة، بدليل اعقتاله لعدد آخر من النشطاء السياسيين ومشجعي الزمالك، وتصفية آخرين بعد ساعات من الإفراج.
تصعيد الضغوط الحقوقية والقانونية والسياسية والميدانية على نظام السيسي محليا ودوليا هو وحده الكفيل بالإفراج عن المزيد من السجناء، وصولا إلى الخلاص الكامل من النظام العسكري الانقلابي، واستعادة المسار الديمقراطي والحكم المدني، والتحية واجبة لكل من يساهم في تلك الضغوط، وخاصة المنظمات الحقوقية المصرية والدولية والنشطاء الحقوقيين ووسائل الإعلام الحرة.
أضف تعليقك