بقلم: وائل قنديل
قبل يومين، عصرًا، أعلنت السلطات المصرية أن جسمًا غريبًا أصاب زجاج حافلة تقل سياحًا في منطقة الهرم، فجرح عددًا منهم، ولم تذكر سلطات التحقيق أو المعاينة، بعدها، أن الحادث له علاقة بالإرهاب، غير أن ناشطين سياسيًا هرولوا إلى تسجيل المواقف، وإعلان إدانتهم الإرهاب الذي تمارسه قوى الظلام.
في مساء اليوم نفسه، كان الإعلان عن جريمة تصفية جسدية، وقتلٍ خارج القانون، نفذتها الشرطة بحق مواطنين، في شقتين سكنيتين، في أقصى شرق القاهرة، وأقصى غرب الجيزة، وكانت الحصيلة 12 نفسًا بشرية نحرت، مع بيانٍ مقتضبٍ يقول إنهم إرهابيون، كانوا ينتوون تنفيذ أعمال تهدد أمن البلاد، غير أن الناشطين السياسيين والحقوقيين لم يظهروا، ولم يبادروا، هذه المرة، إذ كانوا مشغولين بقضايا كونية ضخمة، من نوعية الممشى الزجاجي للكوبري المعلق الجديد، وكورنيش البحر في مدينة مطروح.
حتى وقتٍ قريب، كانوا يقتلونهم في مساكنهم، وهم نيام، ثم يعلنون قائمة بأسمائهم مع عنوان "تصفية إرهابيين في اشتباكٍ مع الداخلية"، وكانت بقايا حمرة خجل في وجه مجتمع مدني وحقوقي تدفعه إلى إصدار بياناتٍ تدين عمليات القتل خارج القانون، من دون تحقيق أو محاكمة، وكانت صحافتهم تفرد الصفحات، للحديث عن خطورة القتلى وخريطتهم التنظيمية، وتتسابق في تأليف الروايات الأمنية عن جذورهم وانتماءاتهم.
الآن، وصلنا إلى مرحلة جديدة كليًا، تتم فيها تصفية المواطنين المصريين بالجملة، داخل شقق سكنية، ولا تكلف الحكومة نفسها مشقة إعلان أسمائهم أو صفاتهم، فيما لا يعبأ المجتمع الحقوقي بمعرفة من هؤلاء ولماذا قتلوا وكيف قتلوا وأين ومتى، أو يشغل باله ببيانات ذر الرماد في العيون، متمسّكًا برفض التصفية الجسدية والقتل خارج القانون.
وقبل أن يستعيد أحد ذاكرة هذه النوعية من الأسئلة البديهية، تعاجلهم السلطة بقرارات عفو رئاسي عن سجناء، بعضهم من السياسيين، وأيضًا إخلاء سبيل معتقلين، من رموز المجتمع السياسي والحقوقي، فتنطلق بالونات الفرح في الهواء، وتعلو أصوات الإشادة بسلوك السلطة، لتشكل مع أصوات الوطن الذي يحارب الإرهاب، غطاء عازلًا يحجب الكلام عن أسماء الضحايا وسلامة الإجراءات القانونية، فتمر، خاطفًة، في هذا المناخ التعبوي أنباء إعادة اعتقال الداعية أستاذ الأزهر محمود شعبان، والقيادي في حركة الاشتراكيين الثوريين، هيثم محمدين، وشقيق مؤسس حركة السادس من أبريل، والتلويح بإعادة اعتقاله هو نفسه، واختطاف ربة منزل من بين أبنائها، بتهمة الشكوى من الغلاء.
هذه المشاهد تكررت كثيرًا، في سنوات حكم عبد الفتاح السيسي، حتى صار بارعًا في صناعتها وإخراجها، كما جرى في الأسبوع الأخير من ديسمبر/ كانون أول الماضي، حين صدر حكم ببراءة جميع المتهمين في قضية منظمات المجتمع المدني (الأبيض)، بعد ساعاتٍ من عودة السيسي من أوروبا، وفي اللحظة ذاتها تقتل قواته الأمنية ثمانية مواطنين، في عملية تصفيةٍ جسديةٍ متكرّرة، ويمتهن حرية سيداتٍ، بعضهن من الناشطات في المجتمع المدني أيضًا، ولكنه مجتمع مدني (الملونين) فيحجب صخب الاحتفال ببراءات العشرات الرؤية عن التوحش القمعي الذي يتمدّد ويتسع، ملتهمًا آلافا من الأبرياء الجدد.
يجيد السيسي اللعب بالمعارضة، يعرف كيف يجعلها تصفق، وتلين وتتمايل وتنحني وتنثني وتتسول منه المزيد من فتات الحرية للأصدقاء، ولم لا وقد استكانوا إلى أنه مانح الحرية ومانعها ومنبعها ومصبّها، فيما مئات من سجناء المبدأ والمعنى تبتلعهم الزنازين، لا يذكرهم أحد، ولو ذرّا للزماد في العيون، وكأنهم صاروا معالم ثابتة في تضاريس السجون.
أضف تعليقك