بقلم: خليل العناني
بات ثابتا أنه لا يمكن فهم تاريخ الحكم في السعودية من دون تفكيك علاقته بالدين والمتدينين، خصوصاً من الوهابيين. وقد ارتبطت الدولة والعائلة الحاكمة في السعودية بالأيديولوجيا الوهابية ارتباطاً وثيقاً منذ منتصف القرن الثامن عشر، بغض النظر عن أيٍّ منهما يستخدم الآخر، وهل آل سعود هم من استخدموا الوهابية لكسب الشرعية الدينية، أم أن الوهابية هي التي استغلت العائلة المالكة، لنشر أفكارها وتصوراتها الدينية، ليس داخل المملكة فحسب، وإنما خارج حدودها أيضاً. وقد شهدت لحظة التأسيس للدولة السعودية الأولى تشكل ميدانين، أو مجالين، للحركة (بحسب تعبير بيير بورديو) أحدهما للسلطة، والآخر للدعوة، بشكل هيمن كل طرفٍ على مجاله، وتحرّك فيه بحرية، وبدعم من الطرف الآخر. وكانت الصحوة الأولى نتيجة هذا الرباط الوثيق الذي استمر وتجدد مع الدولتين، السعودية الثانية (إمارة نجد) والثالثة (إمارة نجد والإحساء) التي أسسها الملك الراحل عبد العزيز آل سعود عام 1932، وهي صحوة سياسية كانت مدعومة دينياً من ورثة الإمام محمد بن عبد الوهاب (أهل التوحيد أو أئمة الدعوة النجدية كما كان معروفاً) الذين بايعوا الملك عبد العزيز على الطاعة، والدفاع عن الدولة الناشئة، وإسباغ الشرعية الدينية على سلوكها السياسي داخلياً وخارجياً.
وحسب الباحث الفرنسي، ستيفان لاكروا، فقد احتفظ كل طرفٍ بمجاله الخاص، من دون مزاحمة أو تنافس، واستمرت هذه الحال حتى أوائل السبعينيات، حين بدأت حركة إسلامية ناشئة في التبلور، مثلت مزيجاً من الوهابية والإخوانية (نسبة إلى جماعة الإخوان المسلمين)، سعت إلى أن يكون لها مجال خاص جديد، تعمل من خلاله على نشر أفكارها وتصوراتها. وهي حركة كانت قد بدأت إرهاصاتها في الستينيات، مع القمع الشديد الذي قام به النظام الناصري ضد جماعة الإخوان في مصر. وقد اعتبر بعضهم أن هذه النشاطية الإسلامية الجديدة تمثل حالة "صحوة" دينية وثقافية، تستحق الدعم والمساندة، وهو ما وفّرته له الدولة السعودية التي رعت رموز الصحوة، ووفرت لهم الدعم المادي والوظيفي لنشر أفكارها طوال الستينيات، من أجل مواجهة المد القومي الناصري. وخلال الثمانينيات، اشتد عود الصحوة "الهجينة"، وبدت أكثر حضوراً في الفضاء العام، ليس داخل المملكة وحسب، وإنما خارجها أيضا. وذلك إلى أن جاء الغزو العراقي للكويت، واستعانة المملكة بقوات أميركية لحماية أراضيها من مغامرة صدام حسين، وبدأ الظهور السياسي للصحوة من خلال قيادتها أول حركة احتجاجية سياسية منذ تأسيس الدولة السعودية الثالثة. وأصبح رموز الصحوة، مثل سفر الحوالي وسلمان العودة، من أكثر الشخصيات تأثيرا في الفضاء العام السعودي وخارجه، نظراً لجرأتهما في انتقاد الأوضاع السياسية في البلاد. ومنذئذ، بدأت الفجوة بين الصحوة والدولة السعودية في الاتساع، وأخذت العلاقة بينهما طابعاً صراعياً أججته أحداث "11 سبتمبر" في عام 2001، ودخول المملكة في حالة اضطراب وعدم استقرار، نتيجة للهجمات الإرهابية التي قام بها شباب منتمون للحركات والتيارات الجهادية التي نشأت في المملكة، وكانت من أشد ناقدين تيار الصحوة ومهاجميه.
ومنذ صعود نجم ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، واحتكاره السلطة، أصبح تيار الصحوة، أو بالأحرى بقاياه، كبش الفداء الذي يحاول بن سلمان تقديمه في سبيل إنجاز "صحوته" الحداثية، والتي يعتقد أنها يجب أن تقوم على أشلاء الصحوة، وعلى حساب حرية رموزها، مثل الشيخين، سلمان العودة وسفر الحوالي، وغيرهما ممن كانوا يجابهون تيارات التشدّد والتكفير، ودعموا المملكة خلال عقدي التوتر والاضطراب، في التسعينيات والعقد الأول من الألفية الجديدة. ويحاول إعلامه وكتّابه، وبعضهم كان يوماً عضواً فاعلاً في تيار الصحوة وفي التيارات الجهادية، خلط الحابل بالنابل، في ما يخص تيار الصحوة، وغيره من التيارات الجهادية والتكفيرية. ويبدو بن سلمان كما لو كان يحاول مسح الاتهامات الغربية للمملكة برعاية التشدّد والتطرّف من خلال التخلص من شيوخ الصحوة، كي يتفرّغ بعدها لشيوخ الوهابية.
وفي ظل رغبة بن سلمان البقاء، والهيمنة على المجالين، الزمني والديني، فلن يسمح بوجود أية "صحوات" أخرى، يمكنها أن تهدّد "صحوته" الناشئة. ولن يتورّع عن استخدام كل الأدوات السياسية والإعلامية والأمنية للتخلص من الصحوة، وما قد يذّكره بماضيها الذي ساهم في وصول السلطة إليه. وقد حوّل صراعه مع الصحوة، وما يمثلها من فكر ورموز، إلى صراع صفري ومعركة بقاء، على طريقة "إما صحوتي أو صحوتكم"!
أضف تعليقك